سالم الكتبي
يدرك أي باحث في العلوم الاستراتيجية أن إطلاق جماعة الحوثي صاروخ سكود مؤخرا على الأراضي السعودية، لم يكن لهدف عملياتي بحت، وأن تدمير الصاروخ بوساطة منظومة الدفاع الصاروخية "باتريوت" السعودية لم يكن ليقف حائلا دون محاولات جماعة الحوثي استثمار الفعل ذاته إعلاميا لتحقيق اهداف عدة، أولها محاولة استعادة الثقة بالنفس بعد مالحق بالجماعة وأتباعها من خسائر معنوية ومادية وبشرية مدمرة منذ بداية عملية "عاصفة الحزم" وحتى الآن، ثم محاولة التأثير معنويا في الداخل السعودي، بحثا عن زعزعة ثقة الشعب السعودي الشقيق في قيادته، وهو مايفسر بث صور أرشيفية واضحة وأخرى مفبركة تقنياً وترويجها باعتبارها تعبير عن محاولات فرار للمدنيين السعوديين إلى قطر والبحرين، وكأن الاشقاء في السعودية قد ضاقت بهم أرض بلادهم الرحبة وصاروا يبحثون عن ملاذ من صاروخ حوثي خائب!! والهدف الثالث لهذا الفعل الدعائي ـ وليس العسكري ـ هو محاولة تحسين الموقف التفاوضي للحوثيين وأتباع الرئيس اليمني الأسبق علي عبد الله صالح قبل انطلاق مفاوضات جنيف، وقد تجسد ذلك أيضا انضمام ميلشيات صالح إلى جماعة الحوثي في محاولات الهجوم البري الفاشلة على الأراضي السعودية، والأرجح أن صالح يخشى استبعاده سياسيا من مشهد جنيف ويلعب أوراقه كافة من أجل ايحاد مقعد على طاولة التفاوض.
فكرة خلط الأوراق وممارسة اللعبة الدعائية والحرب النفسية قديمة قدم التاريخ ذاته ولا جديد فيها سوى التكتيكات والأساليب المستخدمة، ولذا لا يحمل الضجيج الحوثي كثير من المفاجآت بالنسبة لمن يتابع واقع الصراعات ومساراتها، فالهدف هو محاولة خلق واقع جديد أو على أقل التقديرات اثارة الشكوك والبلبلة حول قدرة التحالف العربي الذي تقود المملكة العربية السعودية على حسم الصراع نهائيا لمصلحته، أو ايجاد مبررات تضطر السعودية إلى تقليل سقف المطالب ودفعها إلى تقديم بعض التنازلات إلى الحوثي وميلشيات صالح.
المسألة إذاً هي باختصار هي محاولة جماعة الحوثي وصالح البحث عن نصر دعائي ولا أقول معنوي، لأن النصر المعنوي ربما ينطلق من مكاسب عملياتية ضئيلة او ذات رمزية على الصعيد النفسي، ولكنها بالأخير تعبر عن تقدم ما على الأرض، في حين أن ماحدث على صعيدي الهجوم البري الفاشل وإطلاق صاروخ "سكود" ليس سوى استعراض دعائي وإعلامي لا أكثر ولا أقل.
الغريب أن الدعاية الاعلامية الحوثية تجد من يصدقها، فهي تعلن الاستيلاء على منفذ حدودي مع المملكة العربية السعودية وتروج صور مفبركة لأنصار الحوثي وهم يحتفلون بالاستيلاء على المنفذ مع إن أي عاقل يدرك بسهولة أن مقالات التحالف قادرة على دك المنفذ بمن فيه في لحظات حال وقوعه بالفعل في دي قوات الحوثي وصالح!!.
الأمر برمته لا ينطوي على الكثير من المفاجآت، فالحروب باتت تبث على الهواء عبر الفضائيات منذ أكثر من عقدين، ومايدور قبل جنيف في الداخل اليمني هو عبارة عن فعل ورد فعل، فقوات التحالف تسعى من جانبها إلى انتصار عسكري حاسم تضعه على طاولة التفاوض، بينما يحاول الحوثيين وميلشيات صالح انتزاع أي انتصار دعائي أو على الأقل خلق أكثر قدر ممكن من البلبلة والشكوك حول الأمن والاستقرار في اليمن، بما يدفع الأطراف الراعية إلى الضغط على السعودية لخفض سقف شروطها التفاوضية بحثا عن تحقيق الاستقرار. ومن وجهة نظري ، كمحلل، فإن البحث عن مفهوم الانتصار الحاسم في مثل هذا النوع من الصراعات العسكرية مسألة مشكوك فيها، والتجارب المماثلة ربما تميل إلى قياس نتائج العمليات بمدى إحداث تغيير في معادلات القوى العسكرية وتوازناتها على الأرض وقد حدث ذلك بالفعل لمصلحة التحالف، حيث تم تحجيم تمدد جماعة الحوثي وميلشيات صالح وانهاء مقدرتها على التحرك والتمدد جغرافيا للسيطرة على المدن والمحافظات اليمنية، ولكن تبقى معارك كر وفر بحكم عدم وجود قوات برية تحصد نتائج الضربات الجوية وتترجمها إلى واقع ميداني.
صالح والحوثي قاما مؤخرا بتشكيل، كائن سياسي هجين أسموه "الجبهة الوطنية لمقاومة العدوان" ويروجان له إعلاميا مظلة للقوى السياسية اليمنية في الداخل، ويضم حزب المؤتمر الشعبي العام الذي يتزعمه الرئيس السابق علي عبدالله صالح، وجماعة "أنصار الله" وحزبا البعث القومي والاشتراكي وعدد من أحزاب اللقاء المشترك والتحالف الوطني الديمقراطي، والإشارة الأهم في هذا التكتل هي ضرورة انتظار حقيقة هذا الاصطفاف وما إذا كان يمثل اصطفافا رسميا بالفعل بين صالح والحوثي رغم محاولات الانكار السابقة لوجود أي تنسيق مشترك.
الانقلابات المفاجئة في المواقف ليست غريبة بالنسبة للحوثيين بطبيعة الحال، فالحوثي الذي كان يجاهر بالعداء للأمريكيين، يتباهى حاليا بالتفاوض مع ممثلي الخارجية الأمريكية في عمان، ويعتبر ذلك نصر دبلوماسيا، كونه يرى في التفاوض اعتراف بدور الجماعة في المعادلة السياسية اليمنية، في حين أن الواقع يقول اللجنة الثورية العليا لجماعة أنصار الله، والتي قبلت المشاركة في حوار جنيف كانت ترفض منذ أشهر قلائل أي حوار وطني داخل اليمن وليس خارجه!!. بل إن زعيم الحوثيين عبد الملك الحوثي قد رفض في خطاب له منتصف مارس الماضي أي مفاوضات تحت رعاية الأمم المتحدة التي وصفها بـ"داعمة الإرهاب والظلم والاستكبار في العالم"، ومعنى ذلك بداهة أن القبول بكل ماسبق رفضه هو تعبير عن تغير واقع الحال وانهيار ماكان يستند عليه الحوثي من معطيات الاستقواء، ولكنها المكابرة والعناد هي مايمنع الحوثي وجماعته من الاعتراف بالخسارة.
شخصيا، اعتقد أن الانقلاب في مواقف الحوثي قد تستمر في مفاوضات جنيف، التي ستكون القشة التي ستقصم ظهر بعير التحالف بين صالح والحوثي، وربما يتحول التعاون إلى صراع مصالح متوقع بين الجانبين، فالحوثيين باعوا صالح بالفعل حين تجاهلوه وذهبوا للتفاوض في مسقط بمفردهم، وهم يدركون رغبة الجانبين السعودي والأمريكي استبعاد صالح تماما من طاولة التفاوض، لذا قد يميل الحوثي إلى مقايضة تحالفه مع صالح بمكاسب سياسية تعوض خسائره العسكرية.
الأهم من هذه المناورات جميعها، أن الوضع في اليمن بات صعبا على أهل هذا البلد العربي الشقيق، وهذا المعطى تحديداً ربما يمثل أكبر ورقة ضغط على قادة دول التحالف، الحريصين أكثر من غيرهم على سرعة استعادة الأمن والاستقرار وانهاء المعاناة ومظاهر الفوضى الادارية والأمنية هناك، ولكن بالمقابل، يبدو أن الحوثي لن يكف عن الضجيج وصالح لن يتوقف عن الغباء السياسي والرهانات الفاشلة، ويدفعان باتجاه صراع ممتد ولا يتوقفان عن التحريض الاعلامي والدعائي والشحن الطائفي ضد الأشقاء في السعودية من دون أدنى مبالاة بمعاناة ملايين اليمنيين جراء توقف شبه كامل لمظاهر الحياة الطبيعية منذ أشهر عدة مضت. والاشكالية في اليمن ليست في صيغ الحل، ولا البدائل السياسية، بل تكمن بالأساس في احترام مقررات الشرعية الدولية من جانب الإنقلابيين الحوثيين واتباعهم من أنصار صالح، فقد انقلبوا على المبادرة الخليجية وقرارات الشرعية الدولية، ولا ضامن الآن لاحترامهم لأي تسويات جديدة قد يسفر عنها جنيف أو غيره، خصوصا أن جنيف تعد محطة تفاوضية تجمدت عندها ملفات اقليمية أخرى منها آخرها الملف السوري.
ايلاف