إياد ابو شقرا
جاء «تفجير العنود»، بعد «تفجير القُديح»، ليؤكد أن المملكة العربية السعودية في حالة حرب.
حتى قبل شن عملية «عاصفة الحزم» تسابقت القيادات الإيرانية على توجيه التهديدات للمملكة. ولكون أطماع طهران واسعة على مساحة العالم العربي، صار قادتها يعتبرون أي تصدٍّ لتدخلها السافر في الدول العربية «تدخلاً في شؤونها الداخلية»، كيف لا وقد بشّرنا بعضهم بأن «حدودها» تصل اليوم إلى البحر الأبيض المتوسط، وأنها أضحت تتحكّم بأربع عواصم عربية.
ثم حتى خارج «المُستعمرات الإيرانية الجديدة»، ترى طهران أنها صاحبة الحق المُطلق بالتكلّم باسم أي شيعي في أي مكان في العالم العربي، ولها ملء الحرية في منح شهادات الوطنية وشرعية التمثيل على من تختار. وفي المقابل، تهدر دم كل من تكره بإلصاق تهم الخيانة بهم، كما فعل أمين حزب الله اللبناني باعتباره أي شيعي لبناني لا يسير في ركاب حزبه، ويتحفّظ عن تبعيته السياسية المطلقة، من «شيعة السفارة» (الأميركية طبعًا لا الإيرانية).
التهديدات الإيرانية لم تتوقّف منذ عام 2011 مع تدخّل قوات «درع الجزيرة» في البحرين لتأمين المنشآت الحكومية وحماية الأمن بعد الاحتجاجات المحرَّكة إيرانيًا، ثم بعد الموقف الحازم للرياض والعواصم الخليجية من الحرب الغاشمة التي شنّها بشار الأسد على انتفاضة الشعب السوري. وما كان لهذه التهديدات أن تُطلق لولا وجود نية عدوانية وراء إطلاقها. إذ لا يهدّد جيرانه بالفتنة الداخلية مَن يؤمن بعلاقات «حسن الجوار» و«التعاون الإقليمي» كما يرد – أحيانا – على لساني حسن روحاني ومحمد جواد ظريف المعسولين، وتصدقه العواصم الكبرى.
ومن ثَم، فعندما اضطرت دول مجلس التعاون الخليجي لحماية الشرعية في اليمن بعد الانقلاب الحوثي عليها وعلى المبادرة الخليجية المدعومة دوليًا، انكشف عمق التورّط الإيراني في اليمن على شتى الأصعدة، من التسليح فالتمويل فالجهد اللوجيستي والتدريبي والقتالي. الترسانة المسلحة التي بنتها إيران في اليمن، والروابط التنظيمية التي أقامتها مع الحركة الحوثية منذ سنين، يستحيل أن يكون هدفها موضعيًا محدودًا، بل هو جزء لا يتجزأ من التمدّد الجيو - سياسي القائم على فكرة «تصدير الثورة». ولقد جاء الانقلاب الحوثي في اليمن جزءًا من «حرب» فعلية تشنها إيران، أولاً لضرب السعودية، وثانيًا لتدمير أمن الخليج، وثالثًا للهيمنة على منطقة المشرق العربي والمجاري المائية من الخليج إلى قناة السويس.
إلا أن الحرب لم تأخذ دائمًا شكل المواجهة المباشرة، بل كثيرًا ما أخذت شكل الاستغلال «الموسمي» لجماعات، منها مَن هو مشبوه ومنها من هو مُضلَّل (بفتح اللام)، تزايد في خطابها السنّي التكفيري على أهل السنّة والجماعة، وترتكب الفظائع باسم الإسلام، وتخوض حربًا ضروسًا على الاعتدال الإسلامي في كل مكان.
ظروف نشوء تنظيم القاعدة معروفة، ونتذكّر كيف أسهمت قوى عالمية كبرى في «حرب أفغانستان» إلى جانب الدول العربية أو الإسلامية، التي تحمّلها بعض الأصوات في الغرب اليوم وحدها مسؤولية تلك الحرب وتداعياتها مثل ظهور «القاعدة» ثم «داعش». وما يتسابق بعض المعلقين الغربيين على تسويقه دفاعًا عن الصفقة النووية الإيرانية – الأميركية الآن، هو حصر مسؤولية التطرّف «الإسلامي» - بالذات في التطرّف السنّي - بدول عربية وإسلامية بعينها، نافيًا دور العواصم الغربية الكبرى في تحويل أفغانستان إلى «فيتنام الاتحاد السوفياتي».
ومن جهة أخرى، للغاية نفسها، ثمة مساع حثيثة تبذل في الإعلام الغربي في أميركا وأوروبا على محو صورة التطرّف الإرهابي «الإسلامي» من الذاكرة الجماعية الغربية عندما يتعلق الموضوع بالحليف المستقبلي إيران. فحتى في الولايات المتحدة وبريطانيا التي خُطف منها رعايا (واحتجزوا لسنين كثيرة) أو قتلوا خلال الثمانينات في لبنان وغيره، يتحوّل «التطرّف الإسلامي» شيئًا فشيئًا إلى «التطرّف السنّي» وحده.
هذه الجهود وصلت أخيرًا حتى إلى اليابان. إذ نشرت صحيفة «جابان تايمز» تحقيقًا من بغداد جاء فيه أن «داعش» يبني «سلاح طيران من الشاحنات المتفجرة»! ويشرح التقرير كيف اعتمد التنظيم المتطرّف أخيرًا «الشاحنات المتفجرة» في عملياته في أماكن عدة منها عين العرب (كوباني). ثم أوضح معدّ التقرير – بارك الله فيه – كيف أن «داعش» لم يبتكر المركبات المتفجرة (رمز إليها بأحرف SVBIED) بل سبق استخدام عربات خيل متفجرة عام 1800 في محاولة اغتيال نابليون بونابرت في باريس. ثم عدّد أمثلة أخرى مُستشهدًا بخبراء أميركيين «تذكّروا» تفجيرات «نمور التاميل» و«تفجير أوكلاهوما سيتي» (1995)، لكن غاب عن بالهم لسبب ما تفجير «المارينز» الأميركيين في بيروت عام 1983!!
المسألة ليست نسيانًا بل تناسٍ متعمّد لأنه مطلوب على أعلى المستويات محو مثالب خصم الأمس وتأهيله ليغدو حليف الغد. ولهذا السبب يتوجب التعامل مع الحرب الإيرانية بوعي يستوعب كل أبعادها ويتحاشى التبريرات الساذجة واللامسؤولة التي تعزّز حجة المنهمكين بـ«تبييض صفحة» طهران، تمهيدًا لاستعداء العالم كله على خصومها السياسيين الإقليميين. وبالتالي، فإن أي تردّد في إدانة الزُّمر المتطرفة التي تورّطت وتتورط في فظائع «داعش» في كل مكان، ولا سيما الآن في السعودية، يسدي خدمة كبرى لذلك المشروع الخطير.
نعم هناك ظلم. نعم توجد بيئات حاضنة تكبر وتتنامى وتزداد مرارة بسبب هذا الظلم.
لكن ما نشهده اليوم «حرب» بكل ما للكلمة من معنى، ولا سبيل لكسبها إلا بتحصين «الجبهة الداخلية» فعلاً لا قولاً. ثم إن الدور الإقليمي الذي يؤديه «داعش» صار مكشوفًا، على الأقل، في سوريا حيث هو «الحليف الميداني المستتر» لنظام بشار الأسد وداعميه. وهذا الدور هو تعريض ملايين المسلمين السنّة في المنطقة للتهجير والتشريد، بعد وضعهم أمام خيارين أحلاهما مرّ: إما الرضوخ للاحتلال الإيراني تحت الألوية المذهبية الانتقامية، أو الاستكانة لسيوف «داعش» وخناجره.
بلداننا وأقلياتنا ليست بحاجة لحماية أجنبية.. إيرانية كانت أم غير إيرانية، ومصير أقلياتنا الدينية والمذهبية والعرقية أمانة في أعناق كل وطني حريص على مجتمعات متماسكة ومتضامنة تستند إلى التعايش وتحترم التنوع بل وحق الاختلاف.
وعلى من يرفض التعايش تحمّل عواقب مواقفه.