فارس الخطاب
في عام 2011 سعت المملكة العربية السعودية لإقناع دول مجلس التعاون الخليجي بتطوير مشروع "المجلس" إلى "اتحاد" ترتقي فيه الصورة إلى مشهد تكون فيه للجميع هوية واحدة وقيادة مركزية واحدة.
ولعل الهاجس الذي راود السعودية في تلك السنة وما بعدها مرده تداعيات كثيرة في المنطقة ومتغيرات أكبر في أجزاء عديدة من الوطن العربي كالثورات التونسية والليبية والمصرية ثم السورية، وزيادة حجم النفوذ والتمدد الإيراني في الإقليم، خصوصا بعد تطورات الموقف بشكل جلي في مملكة البحرين وتدخل قوات درع الجزيرة لإحكام الأمن هناك.
ناهيك عن تحركات سياسية هنا وهناك ذات امتدادات خارجية ظهرت في بعض دول مجلس التعاون كالتي أشير لها في دولة الإمارات العربية المتحدة لتنظيم الإخوان المسلمين والجماعات الموالية لإيران في المملكة العربية السعودية واليمن والكويت وغيرها.
"ترتبط بالهاجس الأمني عوامل كثيرة، كالعامل الاقتصادي والتعليمي والصحي والتنموي بشكل عام، فمن حق خمسين مليون نسمة تقريبا(عدد سكان دول الخليج) أن ينعموا بالأمن والسلام في بلادهم، خصوصا وهم يتربعون على مجموعة من أكبر وأهم الاقتصادات في العالم (1.60 تريليون دولار)"
إن هاجس الأمن هو الغالب خليجيا، وترتبط بهذا الهاجس عوامل وعناصر كثيرة، كالعامل الاقتصادي والتعليمي والصحي والتنموي بشكل عام، ولعل من حق خمسين مليون نسمة تقريبا (عدد سكان دول الخليج العربي) أن ينعموا بالأمن والسلام في بلادهم، خصوصا وهم يتربعون على مجموعة من أكبر وأهم الاقتصادات في العالم (1.60 تريليون دولار)، أمن وسلام يفضي إلى رؤى وإستراتيجيات قابلة للتنفيذ تزيد من قدرة وقوة هذه الدول على النهوض بدور إقليمي وعالمي، وتكون لها منزلة الكبار في ما يتعلق بقرارات التحكم في مصائر الإقليم والأمة العربية أيضا.
إن واقع الحال المضطرب جعل دول الخليج في أغلب أوقاتها تتخذ ما تراه مناسبا في ما يخص موضوع الأمن، وكل من يذهب أو يقيم في دول الخليج العربي يستشعر أهمية هذا الموضوع وخطورته وحساسيته هناك.
ورغم إلحاح وسعي السعودية لحسم موضوع الاتحاد الخليجي، فإن عوامل كثيرة أدت إلى عدم تحقيق تلك الإرادة حتى رحيله في يناير/كانون الثاني 2015، ورغم أن الموضوع بحد ذاته يمثل طموحا عميقا لشعوب دول مجلس التعاون طيلة أكثر من ثلاثة عقود من الزمن، وأنه يفضي في نهاية المطاف إلى وحدة تجعل من دول صغيرة مهددة بعناصر كثيرة، يجعلها دولة أو كيانا موحدا ذا قوة اقتصادية وبشرية وعسكرية وأمنية متقدمة، رغم ذلك فإن المشروع لم ير النور بسبب عدم موافقة سلطنة عمان حينها وتلويحها بالانسحاب من مجلس التعاون الخليجي إذا طرح هذا الموضوع في قمم الخليج.
ورغم عمق التحديات الأمنية والإستراتيجية التي واجهت دول الخليج العربي بدءا من عام 1981 وتنامي الدور الإيراني وفق شعار (تصدير الثورة) الذي اعتمدته الثورة الإيرانية لتحريك الأقليات الشيعية في دول الخليج العربي ومن قبلها العراق طيلة أكثر من ثلاثين عاما، فإن دول الخليج العربي كانت في داخل بيت قرارها السياسي لا تحبذ المغامرة الكبرى بقبول تنفيذ رغبة جماهيرها، لأنها كانت تفضل الحفاظ على مبدأ السيادة والاستقلال بمفهومه السائد.
كما أن اعتماد دول الخليج العربي على الحماية الأميركية والغربية عموما حدّ من قدرتها على استنباط الرؤية التي تمكنها من تحقيق حلم الوحدة عبر إيجاد صيغ تعتمد التدرج الزمني والوظيفي المعتمد على مشاركة الجميع بكل عناوين المسؤولية في مؤسسات ووزارات وهيئات دولة الاتحاد ووفق صيغ قانونية ودستورية ملزمة للجميع.
ومن هنا، فإن موضوع التنازل عن السيادة، والذي يرفضه جميع قادة المجلس ضمنا، يصبح ذا مخرجات وظيفية واعتبارية وأمنية مشتركة، على اعتبار أن نظام دولة الاتحاد لن يكون ملكيا سعوديا-بحرينيا، ولا أميريا كويتيا-قطريا، ولا بصيغة حكم دولة الإمارات العربية المتحدة، بل بصيغة أكثر مرونة وقدرة على صنع مستقبل المنطقة وشعوبها وصناعة آلية الأمن المشترك لها.
"بحكم الخطر المحدق الآن وليست الأمنيات الشعبية فقط، على الملك سلمان وضع رؤيته، وكما نجح في تشكيل قوة عاصفة الحزم، فإن الواقع الحالي والخطير يفرض أن يكون الاتحاد هو أمضى رد على التطاول الإيراني، والتسويف الأميركي في معالجة ملفات المنطقة"
يشير مراقبون إلى أن السبب في تعجيل الرياض طلب "الاتحاد الخليجي" كان موضوع الثورات العربية، وبعد أن انحسرت هذه الظاهرة وبدأت عملية تآكلها بمساعدة من بعض دول الخليج أيضا، تراجعت نغمة "الاتحاد" كثيرا، حتى ظهرت مشكلة الحوثيين في اليمن وانكشف المشهد عن وجود إيراني إستراتيجي مرعب في الدولة المجاورة للسعودية.
وبدا المشهد حينئذ أمام الرياض وكأنه سباق مع الزمن بين طهران من جهة وبين عملية انتقال السلطة في الرياض بعد رحيل الملك عبد الله بن عبد العزيز وتسنم العاهل السعودي سلمان بن عبد العزيز مقاليد حكم المملكة، وقد بدا كأن طهران أمرت مليشياتها في اليمن بإحكام السيطرة على العاصمة اليمنية صنعاء ثم التمدد جنوبا باتجاه عدن، حيث إطلالة اليمن المهمة على باب المندب والبحر الأحمر.
الملك سلمان بن عبد العزيز لم يمهل الحوثيين الكثير من الوقت ليرد على المشروع الإيراني الذي ينفذونه في اليمن فباغتهم، وباغت الجميع في حقيقة الأمر بعملية "عاصفة الحزم" في 26 مارس/آذار 2015، والتي يشكل أهم عنصر فيها وجود قوة من عشر دول حافظت على سرية المعلومة والعملية، ونفذت ضربات جوية مركزة ومكثفة بشكل صدم مراكز القرار في طهران وجنوب لبنان، ومن قبلهم بالطبع حوثيو اليمن والقوات المتحالفة معهم (الرئيس السابق علي عبد الله صالح).
إن تطور الأحداث بعد استمرار عملية التعرض للمشروع الإيراني في اليمن منذ مارس/آذار الماضي وحتى الآن وضع الجميع أمام مشكلات حقيقية كبيرة واستنتاجات أكبر، بعض المشكلات تتعلق بقدرة إيران على خوض معارك استنزاف كبيرة ولفترات طويلة، وهو ما يعمل عليه الحوثيون الآن، ثم إمكانية افتعال مشكلات بحرية أو جوية تفضي إلى تصعيد الموقف العسكري إلى أشده مع بعض دول الخليج العربي، والأخرى تتعلق بالطابور الخامس أو ما اصطلح على تسميته "الخلايا النائمة" في كل دولة من دول الخليج، والتي تمثل في حقيقة الأمر نفوذا إيرانيا بدرجات متفاوتة في هذه الدول، وأن بقاء الأمر على هذا الوضع ليس جيدا بالنسبة لمآلاته المستقبلية، خاصة أن دول الخليج لا يمكنها مجاراة هذا الوضع طويلا.
إن الخصوصيات المتصلة بشكل السلطة وحجم الثروة وتصنيف الأعداء بالنسبة لدول مجلس التعاون يجب أن يعاد النظر فيها بشكل صريح ومباشر، وبعيدا عن الاجتماعات البروتوكولية، يفترض -وبحكم الخطر المحدق الآن وليست الأمنيات الشعبية فقط- أن تضع سلطات دول الخليج رؤيتها. وكما نجحت بالاشتراك مع غيرها في تشكيل قوة عاصفة الحزم، فإن الواقع الحالي والخطير يفرض أن يكون الاتحاد هو أمضى رد على التطاول الإيراني، والتسويف الأميركي في معالجة ملفات المنطقة.
"أمن الخليج العربي، وبعد أن فقد خط الصد الأول (العراق) ثم خط الصد الثاني (اليمن) يحتاج إلى وجود قوة عسكرية من أبنائه قادرة على الدفاع عنه، وتعزيز قدرات هذه القوة سيوفر الأمن والحماية الوطنية الكاملة، وبما يجعل مفهوم الاستقلال أكثر عمقا"
يجب أن ترى دول الخليج العربي مصالحها من خلال التفكير جديا باتخاذ قرار الاتحاد والأخذ بصيغه الوظيفية لتطوير بنية مجلس التعاون الخليجي بغض النظر عن موافقة جميع دول المجلس الست على هذا الأمر، فعدم موافقة إحداها لا يمنع بقية الدول من حماية أمنها وتطوير مستقبلها.
إن دولة الاتحاد الخليجي لا تحتاج الكثير من أجل إعلانها، فالبنية الاجتماعية واحدة، والمستوى الاقتصادي متقارب، والحدود شكلية، والعقائد الإيديولوجية متطابقة، ولديهم جيش مشترك (قوات درع الجزيرة).
كما أن إعلان دولة الاتحاد يمثل استجابة سريعة للتحديات التي تواجهها دول الخليج والمنطقة، فإيران -سواء شئنا أم أبينا- أعلنت الحرب على دول الخليج، ويكفي استعراض تصريحات قادة إيران المدنيين والعسكريين ثم أمين عام حزب الله اللبناني ورئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي وغيره لنعلم بوضوح اتجاهات هذه الدولة ومآلات الأمور في مستقبل المنطقة القريب.
إن أمن الخليج العربي، وبعد أن فقد خط الصد الأول (العراق) ثم خط الصد الثاني (اليمن) يحتاج إلى وجود قوة عسكرية من أبنائه قادرة على الدفاع عنه، وإن تعزيز قدرات هذه القوة سيوفر الأمن والحماية الوطنية الكاملة، وبما يجعل مفهوم الاستقلال في دول الاتحاد أكثر عمقا وتجذرا.
ولعل ربط الفيلسوف الألماني إيمانويل كانت مفهوم الأمن بأقصى "درجات التعاون، والتضامن، والإعلان بالانتماء إلى عالم واحد"، ينطبق بقوة على ظروف مجلس التعاون لدول الخليج العربي، وبما يجعل الاتحاد في ما بينها وفي هذا الوقت خاصة ضرورة حتمية.
* نقلا عن موقع الجزيرة نت