فهمي هويدي
من بين الأخبار «غير المهمة» التى لم يشر إليها الإعلام المصرى أن ثمة تعبئة عالية الصوت فى إسرائيل دعت المستوطنين إلى الاحتشاد لاقتحام المسجد الأقصى أمس (الأحد) احتفالا بما يسمونه عيد «شفوعوت» (ذكرى نزول التوراة) وأن ثمة دعوات مقابلة من الفلسطينيين للاحتشاد أمام المسجد الأقصى للحيلولة دون ذلك. من تلك الأخبار أيضا أن نحو ألفين من مسلمى الروهينجا الهاربين من جحيم بلادهم (ماينمار) عالقون فى عرض البحر منذ أربعين يوما. يعانون من الجوع والمرض، ويبحثون عن مأوى لهم.
ليست جديدة مخططات الإسرائيليين لا لتهويد القدس ولا لاقتحام المسجد الأقصى. من ثم فإن أى خطوات تصدر عنهم فى هذا الاتجاه أو ذاك فقدت قيمتها الإخبارية، رغم فداحتها السياسية والحقوقية والتاريخية. مع ذلك فإن الوجع الناشىءعن ذلك كان شديدا خلال الأسابيع الأخيرة.
إذ جرى الاستنفار لإنشاء القوة العربية وتذكر الجميع أن هناك اتفاقية للدفاع المشترك بين الدول العربية، وتنادى البعض لاجتماع رؤساء أركان الجيوش العربية. فى الوقت ذاته تحركت أطراف عدة لوقف استيلاء الحوثيين على اليمن من خلال عاصفة الحزم. التى أعقبتها عاصة الأمل، وانتشرت فى سماء اليمن أسراب الطائرات العربية المقاتلة التى ألقت حممها فى الفضاء اليمنى وأحدثت ما أحدثته من دمار وترويع. وفى تلك السياقات لم يشر أحد ولو من باب المجاملة إلى ما كان يسمى القضية المركزية. حدث لك فى الوقت الذى تسارعت فيه خطى الاستيطان. وتداعى الإسرائيليون للاحتفال بما وصفوه ذكرى توحيد القدس (يقصدون احتلال القدس الشرقية)، واقتحمت جماعات من المستوطنين باحات المسجد الأقصى وهم يهللون ويرقصون ويؤدون الشعائر التلمودية. وبعد أن انتهوا من مراسم ذلك الاحتفال فى الأسبوع الماضى، دعوا هذا الأسبوع إلى اقتحام الأقصى فى ذكرى عيد «شفوعوت». خلال يومى الأحد والاثنين. وكانت الرسالة التى أعلنت على الملأ أنهم لن يهدأ لهم بال قبل أن ينجزوا مهمتم فى اقتحام واحتلال المسجد الأقصى تمهيدا لما بعد ذلك.
كان المشهد مستفزا ومفارقا. العرب يتقاتلون فيما بينهم ويلوحون بالعضلات فى اليمن وفى غيرها، والإسرائيليون يهللون ويرقصون أمام المسجد الأقصى. إزاء ذلك فإن المرء لا يستطيع أن ينسى أن العالم العربى والإسلامى اهتز حين أشعل أحد الإسرائيليين حريقا أتى على منبر نور الدين زنكى بالمسجد الأقصى فى شهر أغسطس عام ????. فدعى رؤساء الدول الإسلامية لاجتماع فى الرباط خلال شهر واحد، أسفر عن تشكيل منظمة المؤتمر الإسلامى التى أنيطت بها حرية رعاية شئون المسلمين والتخفيف من أحزانهم.
بالمقارنة، لابد أن يدهش المرء حين يقارن استنفار الأمن قبل نحو ?? عاما لأن منبرا تاريخيا بالمسجد الأقصى تم إحراقه، بالصمت والبلادة المخيمين على العالم العربى والإسلامى إزاء جهود اقتحام المسجد الأقصى ومحاولة الاستيلاء عليه كله.
تأسيس منظمة المؤتمر الإسلامى يصلح مدخلا للحديث عن مسلمى الروهينجا البؤساء، الذين يركبون قوارب الموت باحثين عن ملاذ لهم من الجحيم الذى يلاحقهم فى بلدهم الأصلى، بورما التى صارت ميانمار. قصتهم بدورها ليست جديدة، وعذاباتهم لم تتوقف منذ خضعت بورما لحكم المجلس العسكرى قبل نصف قرن، وأصدر فى الثمانينيات قانونا للجنسية لم يعترف بها كمواطنين.بالتالى فقد جردوهم من أبسط حقوقهم فى التعليم والعمل والملكية والانتقال. وأحاطهم البوذيون بسياج من الحصار والكراهية، جعلهم يوصفون بأنهم أكثر الأقليات بؤسا فى العالم.
خلال السنوات الأخيرة يئس البعض من البقاء ولم يحتملوا جحيم الحياة فى مقاطعتهم (أراكون) فاختاروا أن يهاجروا إلى الدول المجاورة، ماليزيا وإندونيسيا وتايلاند، الأمر الذى روج لتجارة نقل البشر وبيعهم واسترقاقهم. وفى حين رفضتهم تايلاند وقاومت وقوافلهم، فإن إندونيسيا وماليزيا أبدتا استعدادا لاستقبالهم، لكن إعاشتهم تحولت إلى مشكلة أخرى الأمر الذى جعل الدولتان تضيقان بهم وتتذمر من استقبال أفواجهم. (فى وقت متزامن نشر ان احد الأمراء أهدى ?? سيارة «رولزرويس» لمرافقيه فى مناسبة زواجه)
التقارير الصحفية تتحدث كل يوم عن معاناة العالقين فى البحر (عددهم ألفان) وعن عذابات ثلاثة آلاف آخرين تكدسوا على الشواطئ وانتشرت بينهم المجاعات والأمراض. أما الذين لم يهاجروا فإن مسلسل اضطهادهم لم يتوقف، ذلك أن بيوتهم وزراعاتهم يتم حرقها وضغوط المتطرفين الراغبين فى طردهم تزداد يوما بعد يوم.
العالم العربى مشغول بصراعاته عن كل ذلك. والإعلام العربى وظفته الأنظمة للحرب المعلنة على الإرهاب، الذى أصبحت مواجهته «أم المعارك» التى حجبت ما عداها. ولأن الأمر كذلك فلا عاد اقتحام المسجد الأقصى خبرا مهما. ولم يعد هناك مجال فى نشرات الأخبار لذكر شىء من هموم المسلمين الأقربين فما بالك بالأبعدين؟ من ثم فلم تعد الكتابة تعبر عن أمل فى فعل شىء. وإنما صارت لا تطمح فى أكثر من مجرد الحفاظ على الوعى والدفاع عن الذاكرة.