بدأت صباح أمس الاثنين، مع توقف الاشتباكات وسريان حالة الهدوء الحذر في السويداء، عملية إجلاء عائلات العشائر العربية من المحافظة باتجاه محافظة درعا المجاورة، في سياق اتفاق تم برعاية إقليمية ودولية، وسط تحذيرات من خطورة أن يتحول الإجلاء إلى تهجير دائم.
وبحسب مصادر محلية تحدثت لـ"العربي الجديد"، فإنه جرى صباح أمس الاثنين إجلاء نحو 300 شخص من عائلات العشائر العربية في محافظة السويداء كانوا محاصرين من قبل مليشيات تتبع لشيخ عقل الطائفة الدرزية حكمت الهجري، بواسطة حافلات إلى مراكز إيواء في بلدة بصر الحرير بريف درعا الشرقي. وذكرت وكالة الأنباء السورية (سانا) أنه سيُجلى ما مجموعه 1500 شخص من مدينة السويداء. وعرضت محطات التلفزة مشاهد تظهر قافلة من الباصات والسيارات تخرج من المحافظة.
وقال قائد الأمن الداخلي في محافظة السويداء العميد أحمد الدالاتي، في تصريحات صحافية، إن الاتفاق يتيح مغادرة جميع المدنيين الراغبين في الخروج من محافظة السويداء، مشيراً إلى "توفير إمكانية الدخول إلى السويداء للراغبين بذلك، وذلك في إطار الجهود المتواصلة لترسيخ الاستقرار وإعادة الأمان إلى المحافظة".
ودخل اتفاق وقف إطلاق النار في السويداء، الذي تم برعاية إقليمية ودولية، حيّز التنفيذ صباح أمس الاثنين، بعد اشتباكات دامية بدأت في الثالث عشر من يوليو/تموز الحالي بين مجموعات محلية درزية في السويداء وعشائر البدو، تدخلت قوات أمنية لفضها، لكنها سرعان ما اشتدت وتحولت قوات وزارتي الداخلية والدفاع إلى طرف رئيسي فيها بمواجهة الفصائل المحلية الدرزية التي اتهمتها الحكومة بنصب كمائن لعناصرها، ليجرى العمل مجدداً على احتواء الوضع في هذه المرحلة مع التوصل إلى اتفاق يقضي بانسحاب القوات الأمنية من السويداء، ثم ما لبثت أن تفجرت المواجهات مجدداً، لكن هذه المرة بين الفصائل المسلحة في المحافظة ومسلحي العشائر بعد "نفير عام" أطلقته العشائر تحت مبرر نجدة عشائر البدو في السويداء، عقب حملة ضخ معلومات مضللة واسعة النطاق على وسائل التواصل الاجتماعي تروج انتهاكات واسعة النطاق ارتكبت بحق العشائر من قبل فصائل محلية مسلحة في المحافظة عقب انسحاب الأجهزة الأمنية. كما شهدت المواجهات، في مرحلتها الأولى خصوصاً، تدخلاً إسرائيلياً تحت ذريعة "حماية الدروز"، سواء من خلال القصف في السويداء أو من خلال العدوان الذي استهدف دمشق يوم الأربعاء الماضي.
وذكّر مشهد الحافلات التي أجلت عائلات من العشائر العربية من السويداء السوريين بمشاهد مماثلة جرت خلال السنوات الماضية، حين هجّر النظام المخلوع سوريين من عدة مناطق إلى شمال البلاد. وتبادل الطرفان، الدروز والعشائر، الاتهامات بالقيام بعمليات قتل ونهب وحرق على نطاق واسع، أدت إلى تحويل محافظة السويداء إلى "منطقة منكوبة" تعاني من أوضاع إنسانية وصحية متدهورة.
ولم يستطع الكثير من المهجرين حبس دموعهم وهم يتحدثون لوسائل الإعلام في ريف درعا الشرقي متأثرين بما حصل لهم خلال أكثر من أسبوع من حصار وتجاوزات انتهت بتهجيرهم من ديارهم. وقال ناصر المحمود: "لا أصدق أني ربما لن أعود إلى بيتي". وأضاف المحمود، الذي وصل إلى ريف درعا الشرقي برفقة عائلته بعد حصار، لـ"العربي الجديد": "ما ذنب المدنيين؟ ليسوا طرفاً في النزاع، لكي يجرى تهجيرهم من أرضهم. الكثير من العائلات اليوم بلا مأوى".
"تهجير قسري" من السويداء
من جهته، اعتبر خليل النايف، في حديث مع "العربي الجديد"، أن ما جرى هو "تهجير قسري"، مشيراً إلى أن "مليشيات الهجري اتخذت من المدنيين دروعاً بشرية"، مضيفاً: "قتلوا زوجتي وابني وخرجت مع ابنتي التي تعرضت للتعذيب". من جانبها، قالت إحدى النساء وهي تغالب الدموع خلال حديث لـ"العربي الجديد": "لقد دمّروا وحرقوا منازلنا. عدة أيام كنا بلا طعام. إلى ذلك، قال أحد المهجرين بحسب ما ظهر على شاشات التلفزة: "أنا مدرس منذ 30 سنة في السويداء، فقد علّمت الجميع في المحافظة، ومع ذلك لم يحترموا ذلك. الذل الذي شهدناه هناك يدفعنا إلى عدم العودة أبداً".
من جانبه، رأى الأكاديمي يحيى العريضي في حديث مع "العربي الجديد" أن هناك جهات وصفها بـ"السلطوية"، و"أفراد عصابات"، تضغط على البدو وتلعب بمصيرهم "من أجل تحميل أهل السويداء ذنب الإخلاء". وأضاف: "انتشرت مقاطع مصورة لرجال كبار ومشايخ يطلبون من البدو البقاء وعدم الخروج من بيوتهم". وأعرب العريضي، المنحدر من السويداء، عن اعتقاده أن النسيج الاجتماعي في المحافظة "تعرض لوعكة موجعة"، مشيراً إلى أن السويداء باتت خارج نطاق السلطة وليس خارج نطاق الدولة، مضيفاً: الفرق كبير. وتابع: "المسألة ليست بين دمشق والسويداء، بل بين نمط سلطوي لا يكترث لبعثرة الوطن على أسس طائفية نظراً إلى انغلاقه وإقصائيته واستئثاره بالسلطة.
إعادة تشكيل الخريطة السكانية
تعليقاً على مشهد الإخلاء من السويداء، رأى سامر البكور، وهو باحث في المركز العربي لدراسات سورية المعاصرة، في حديث مع "العربي الجديد"، أن التطورات الراهنة "تشير إلى نمط من التهجير القسري يمارس ضمن سياق صراع محلي ــ سياسي، ويهدف إلى إعادة تشكيل الخريطة السكانية (الديمغرافية) من خلال إقصاء عشائر البدو في بادية السويداء". وأضاف: "هذه الإجراءات، التي رافقتها انتهاكات بحق المدنيين، تُعد وفق القانون الدولي الإنساني خرقاً صريحاً للمادة 49 من اتفاقية جنيف الرابعة، ولا يمكن تصنيفها أنها 'إخلاء مؤقت'".
ورأى أن المؤشرات الميدانية "تشير إلى سيناريوهات تتضمن تثبيت واقع تهجير وفرض تغيير ديمغرافي جديد، وعودة محدودة ضمن شروط أمنية وإدارية مجحفة، وتوظيف المهجّرين أداةً تفاوضيةً في صراعات محلية وإقليمية. وبناء عليه، من الضروري التمييز بين الإجلاء المؤقت والتهجير القسري كونهما مسألة سياسية وقانونية". كما رأى أن "عمليات التهجير في محافظة السويداء تعد استمراراً لنمط استخدم سابقاً في حالات مشابهة، أبرزها في حلب الشرقية (2016)، حيث جرى توصيف إخراج عشرات الآلاف من المدنيين والمقاتلين بالإجلاء الإنساني المؤقت، بينما كانت الوقائع تشير إلى إخضاع سكان مناطق محاصرة لاتفاقات استسلام قسرية تحت ضغط القصف والتجويع، أعقبتها عملية تغيير ديمغرافي". وأبدى البكور خشية "من ترسيخ واقع التهجير أمراً واقعاً من دون عودة، أو عودة محدودة مشروطة تُبقي على الهيمنة الأمنية، أو استخدام المهجّرين ورقةَ ضغط سياسي في تسويات محلية"، مضيفاً: "غياب آليات العدالة الانتقالية يعمّق انعدام الثقة بين المكونات المحلية. المطلوب الآن تدخل حقوقي ومراقبة على المستوى الدولي الموثوق لتوثيق هذه الانتهاكات وتحليل آثارها المستقبلية على الاستقرار المجتمعي".
ولا تتوفر إحصائية دقيقة ورسمية لعدد سكان العشائر في السويداء، وتتفاوت التقديرات على نحو واسع، إذ تتحدث أرقام عن أن عددهم يتراوح بين 30 ألفاً و35 ألفاً. وتتوزع العشائر العربية البدوية على أطراف مدينة السويداء الشمالية والشرقية في مناطق الحروبة ورجم الزيتون والمقوس وبريكة والمزرعة ونجران والمنصورة والكفر وسهوة البلاطة والشعاب، كما يتركزون بكثافة في بلدة عرى جنوب غرب مدينة السويداء ذات الغالبية الدرزية.
وعن الانعكاسات السلبية للصراع الدائر في السويداء وعمليات التهجير، رأى الباحث السياسي أحمد القربي، في حديث مع "العربي الجديد"، أن الآثار ستطاول الكثير من النواحي "منها الجانب الديمغرافي والملكيات والعقارات، والوثائق"، مضيفاً: "ستكون للتهجير تكلفة إنسانية عالية". وتابع: "سيؤدي ما جرى في السويداء إلى تقوية المشاريع الانفصالية في سورية، لا سيما مشروع قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في شمال شرق سورية وفلول نظام بشار الأسد في الساحل السوري. ولا تتوقف الآثار السلبية عند هذا الحد بحسب القربي: فـ"الشروخ الاجتماعية ما بين السنّة والدروز ستتعزز في كل البلاد"، مضيفاً: "أحداث السويداء ستكرس حالة عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي في سورية".