مهدت تحوّلات موازيين القوى في منطقة الشرق الأوسط لتفكيك خريطة النفوذ المستقرّة بين الفاعلين الرئيسيين، وإعادة توزيعها تبعاً لهذه التّحولات، فقد أدّى تقليص نفوذ إيران في المنطقة إلى تغيير موازين القوى، وأيضا مراكز النفوذ ونطاقاتها الجغرافية بينها وبين منافسيها التقليديين. ومع أنه لم تتبلور بعد نتائج هذه التحوّلات، فإنها أتاحت، إلى حد كبير، لمنافسي إيران فرصة استعادة نفوذهم في مناطق إزاحتها، وأيضاً محاولة إعادة ضبط موازين القوة المختلة مع إيران أو على الأقل تحسينها.
في سياق إدارة معادلة القوة مع إيران، وقبلها معادلة النفوذ، قُيدت السعودية، باعتبارها قوة إقليمية رئيسية، بالتحدّيات الأمنية المتأتّية من استمرار تنامي قوة منافسها الإيراني، وهو ما فرض عليها تبنّي مسار سياسي حذر لتأمين نفسها من أي تهديداتٍ ناشئةٍ عن قوة منافسها، وذلك بتفضيل خيار تطبيع علاقتها مع إيران لضمان خفض التهديدات التي قد تضرّ بمصالحها الحيوية، إلا أن هذه الاستراتيجية الوقائية، وإن ضمنت للسعودية تنمية نشاط دبلوماسي منفتح مع الإقليم وتثبيت نفسها وسيطاً سياسياً، لكنها لم تحقق مستوىً من الأمن الاستراتيجي على المدى البعيد، ناهيك عن تحسن موازين القوة بينها وبين منافسها الإيراني، إلى جانب تنامي نفوذ إيران في المنطقة، قوة ردع مقابل إسرائيل، ومن ثم قوة تهديد لمنافسيها، فإضافة إلى الترسانة العسكرية الإيرانية، التي ضمنت لها تفوّقاً غير مشروط بالنسبة للسعودية، فإن اعتماد الأخيرة على حماية حلفائها الغربيين، جعلها رهناً بتقلبات سياسة الحلفاء حيال أزمات منطقة الشرق الأوسط، واشتراطاتها لتعزيز القدرة الدفاعية السعودية، أفضى إلى استمرار انكشافها عسكرياً، وأمنياً أمام منافسها الإيراني. إضافة إلى ذلك، وهو الأهم، شكّل امتلاك إيران وكلاء فاعلين محوراً عسكرياً رديفاً، مقابل فشل السعودية في تنمية وكلاء فاعلين، ما مكّن إيران من تطويق النفوذ السعودي في أماكن نفوذها التقليدية، وأيضا إضعاف وكلائها، فضلاً، وهو الأخطر، عن جعلها هدفا لوكلاء إيران، وأهمهم جماعة الحوثي في اليمن. وإذا كان مسارات حرب الكيان الإسرائيلي على قطاع غزّة، طوال عام، قد رفعت مستويات المخاطر التي تتهدّد السعودية، سواء جرّاء تنامي قوة إيران في المنطقة أو جماعة الحوثي، فإن تقويض النفوذ الإيراني في سورية، وإضعاف وكيلها في لبنان، غير موازين القوة بينها وبين إيران، في نطاقات النفوذ، وأيضاً في موازين القوة، من استعادة نفوذها في لبنان، إلى تنمية حضورها في الساحة السورية.
خلافاً لمناطق النفوذ الأخرى، شكّل لبنان ساحة رئيسية لصراع النفوذ السعودي - الإيراني في المنطقة، وقناة أمامية لإدارة التوتّرات البينية وتصريفها، بما في ذلك التأثير على مناطق النفوذ الأخرى التي ينشط فيها وكلاء الطرفين، وفي حين حسمت إيران، ولسنوات عديدة، هيمنتها على الساحة اللبنانية من خلال قوة حزب الله، أهم وكلائها في المنطقة، بحيث أصبح لبنان مجال نفوذ حيوياً لها، ترتّب عليه تزايد ثقلها السياسي في المعادلة اللبنانية، طرفاً إقليمياً داعماً لوكيلها، مقابل تحجيم نفوذ السعودية، وتقييد وكلائها، فإن تدمير القدرة العسكرية لحزب الله بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان أنتج واقعاً سياسيّاً وعسكرياً مختلفاً، يتمثل بتغيير شروط القوة بالنسبة للفاعلين الإقليميين ووكلائهم، والتي عكست، في المقام الأول، تحوّلات المعادلة الإقليمية، فمن حيث المضامين السياسية، أدّى إضعاف حزب الله إلى تقليص النفوذ الإيراني في لبنان، سواء من حيث شكل التدخّلات السياسية أو تأثيرها، ما يصبّ في صالح السعودية، المتدخل الإقليمي المنافس لإيران. ومن جهةٍ ثانيةٍ، أدّت تلك التحولات إلى تغيير موازين القوة بين الطوائف اللبنانية، فمع بقاء التركيبة الطائفية للسلطة على حالها، فإن تولي جوزاف عون رئاسة لبنان، المرشّح الذي دعمته السعودية، يعكس فقدان حزب الله ثقله السياسي وتراجع مركزه لصالح خصومه السياسيين، إلى جانب أن خطّة الرئيس اللبناني المعلنة لإصلاح الدولة واستعادة مقدّرتها، والأهم احتكار الدولة اللبنانية السلاح، يعني في حال تطبيقه إضعاف حزب الله في المستقبل، إضافة إلى تبنّي تنفيذ قرار مجلس الأمن 1701 بفرض الجيش اللبناني سلطة سيادية تسيطر على الأراضي اللبنانية ومخوّلة بمتابعة انسحاب الجيش الإسرائيلي من جنوب لبنان، إلى جانب ضمان انسحاب حزب الله إلى شمال نهر الليطاني، بحسب اتفاقية وقف إطلاق النار مع إسرائيل. وبموازاة ذلك، شكل اختيار رئيس للحكومة اللبنانية تغيّراً آخر في موازين القوى وضربة أخرى لحزب الله، وكيل إيران، وبعيداً عن نتائج هذه التطورات على الساحة اللبنانية ومدى إمكانية البناء عليها لإيجاد نموذج سياسي مستقر، فإن تجلياتها الإقليمية تعني إضعاف إيران، والأهم عودة السعودية لاعباً رئيساً في لبنان.
إقليمياً، تتمثل أهمية التحولات في الساحة السورية، من حيث تغييرها معادلة النفوذ الإيراني، كونها منطقة إزاحة، الأمر الذي أوجد فرصة للسعودية بتحويل سورية إلى منطقة نفوذ محتملة، ومع أنها حرصت، في السنوات الأخيرة، على تخفيف ارتباط نظام بشار الأسد بحليفه الإيراني، من خلال تطبيع العلاقات الدبلوماسية معه، فإن إسقاط نظام الأسد شكل فرصة تاريخية للسعودية لتغيير موازين النفوذ مع إيران على المستوى السوري، وأيضا الإقليمي، إذ إن تولي سلطة جديدة تتبنّى نهجاً عدائياً مع إيران مقابل حرصها على تنمية علاقات مع محيطها العربي، جعل السعودية، وقوى أخرى، الخيار المتاح لضمان استقرارها السياسي، وبالتالي تمكين السعودية من لعب دور أكبر في الساحة السورية، كما أن حالة الفراغ السيادي في سورية، باعتبارها ساحة نفوذ متعدّدة الأقطاب، مكّنت السعودية من تزعّم خط سياسي يهدف إلى إعادة سورية إلى الحاضنة العربية، مقابل الخط الإسلامي الذي تتزعمه تركيا والدول الداعمة للإخوان المسلمين، إلى جانب تقديم نفسها داعماً إقليمياً للسلطة الجديدة، وتمظهر ذلك برعاية السعودية مؤتمراً دولياً لبحث مستقبل سورية بعد سقوط الأسد. ومن ثم، يجعلها ذلك ليس فقط لاعباً إقليمياً متدخّلاً في الشأن السوري، بل أيضاً وسيطاً لإنجاح التجربة السورية، وتثبيت استقرارها في المنطقة. تضاف إلى ذلك حاجة السلطة الجديدة إلى مساعدات اقتصادية لمواجهة التحدّيات الداخلية تجعلها بحاجة إلى تنمية علاقاتها مع السعودية، إلى جانب التعويل عليها في إعادة إعمار سورية. ولأنه كالعادة، تظل التدخلات الاقتصادية البوابة المواربة لإدارة النفوذ، فإن القوة الاقتصادية للسعودية تمنحها الأفضلية من منافسين آخرين لتثبيت نفوذها في الساحة السورية من خلال إدارة دبلوماسية اقتصادية موجّهة، إلا أن الصبغة الإسلامية للإدارة السورية الحالية قد تؤدّي إلى تمكين القوى الدينية في المنطقة، من أجنحة الإسلام السياسي، وهو ما يجعل السعودية تواجه تحدّياً ما بين المواءمة في خياراتها لتعزيز نفوذها في سورية وتأمين نفسها من مطامع القوى الإسلامية في المنطقة، إلى جانب، وهو الأهم، قد تجعل هيمنة تركيا على الساحة السورية، بما في ذلك تحوّلها إلى منطقة نفوذ حيوية بالنسبة لها، السعودية تخوض مستويات من التنافس مع تركيا في المستقبل، خاصة مع صعوبة إيجاد وكيلٍ موالٍ لها في هذه المرحلة.
في المحصلة، تكرّس إدارة المنطقة، تبعاً لتحولات مراكز نفوذ المتدخلين، الجانب الصراعي، وإن أخفى قدراً من التوتّرات، لكنه لا يزيحها، إلى جانب أن إدارة الأزمات المحلية الناشئة عن المتّغيرات الإقليمية، بمنطق الاستناد إلى نفوذ المهيمنين الجدد، تُحدث دورات عنف مستمرة، ناهيك عن ارتهان المحلي بالإقليمي، وفي موازين النفوذ المتغيّرة ما بين السعودية وإيران، فإن تضرّر نفوذ إيران لا يعني فقدانها أدوات القوة، ناهيك عن استثمار آليات أخرى لتثبيت نفوذها، بما في ذلك التدخل في البلدان المجاورة، تماما كمنافسيها، كما أن التحوّلات الإقليمية، وإن أزاحتها من سورية، وأضعفت نفوذ حلفائها في لبنان، إلا أنها لم تضعف جماعة الحوثي، بل كرّستها قوة إسناد رئيسية للمقاومة في غزّة، وطرفاً فاعلاً ضد إسرائيل، إلى جانب، وهو الأهم، بقائها تحدّياً أمنياً وعسكرياً بالنسبة للسعودية، وعلى حدودها الجنوبية. وإذا كان وقف إطلاق النار في غزّة ما بين إسرائيل وحركة حماس قد يشكل عاملاً لخفض التوترات في المنطقة، فإن المحكّ هو سياسة الإدارة الأميركية الجديدة في المنطقة، وأيضاً قدرة الفاعلين الإقليميين على طي صراعاتهم البينية، وأنْ لا تتحول البلدان إلى ساحة للصراع والتنافس على النفوذ.
العربي الجديد