مع تنامي الضغوط الدولية على إسرائيل أمام فضيحة التجويع انطلقت الصحف الغربية التقليدية في سباق محموم لاستعادة الأكذوبة الإسرائيلية المبكرة حول السابع من أكتوبر، في محاولة للتغطية على أكبر جريمة ارتكبتها الحضارة الغربية حتى الآن في كل تاريخها: تدمير بلاد بكل ما فيها، تطهير عرقي، إبادة، تجويع، محو شامل، وتهجير لنتذكر: أدت الحرب العالمية الثانية إلى تدمير ١٠% من العمران في ألمانيا، ودمرت إسرائيل ٩٢% من العمران في غزة.
من نتائج الجريمة الغربية المنفذة إسرائيلياً اختفاء خمس إلى ربع السكان (واحد من كل خمسة، بحسب بيانات حديثة). اختفوا، قتلوا، ماتوا، دفنوا تحت الأنقاض، فقدت آثارهم، ماتوا بالأوبئة والجوع ونقص الدواء، إلخ .. كما رصدت دراسات حديثة في اللانسيت والنيتشر. أرقام وزارة الصحة تدون فقط الجثث التي عثر عليها.
مقابل هذه الحقيقة انفجرت ماسورة الصحافة الليبرالية ( وهي دوريات وأوراق يملكها رجال أعمال لا علاقة لهم بالليبرالية ولا الأخلاق) لتعيد إنتاج السردية التي خجلت منها حتى نيويورك تايمز صاحبة السبق في نشرها وتعويمها.
أقالت نيويورك تايمز مراسلتها الإسرائيلية التي اشتركت في كتابة التقرير الشهير صراخ بلا كلمات، حول اغتصاب النساء، ولم تعتذر عن الحكاية الزائفة. وقالت بيان للبيت الأبيض أن بايدن خانه التعبير وأنه لم ير صوراً لأطفال بلا رؤوس، وفضحت صحف إسرائيلية المراسلة التي قالت إنها عاينت أطفالا بلا رؤوس. ومع الأيام برزت معلومات رسمية إسرائيلية تتحدث عن اشتراك الجيش الإسرائيلي في قتل عدد كبير من الإسرائيليين تحت ضغط المعركة. جرحت المعركة تلك كبرياء إسرائيل، فقد فقدت ١٥ موقعاً عسكرياً خلال بضع ساعات بحسب بيانات الصحافة الإسرائيلية. خير من عبر عن ذلك هو إيهود باراك، قال إنها أوحت للعرب أن بمقدورهم احتلال إسرائيل بالسواطير.
تعود الصحافة الغربية مجددا إلى الأكذوبة الأولى، أمام ضغط الحقيقة والجريمة. مثلاً في صحيفة ذا ناشونال إنتريست يبدأ نيجر إنيس مقاله بهذه الفقرة:
"في 7 أكتوبر 2023، شهد العالم الشر في أكثر أشكاله غير المفلترة. اقتحم نشطاء حماس الحدود الإسرائيلية، وأطلقوا العنان لمذبحة تحدت حتى أحلك الخيال: قتل الرضع، اغتصاب النساء، وحرق عائلات بأكملها أحياء، وأخذوا المسنين الناجين من الهولوكست كرهائن".
ثمة إصرار شرس على تأكيد هذه الرواية لتأخذ دور المسوغ الأخلاقي الذي دفع إسرائيل الغاضبة لرد "غير متناسب" ولكنه مفهوم، كما يقول روزنبيرغ في ذا أتلانتك بالأمس.
اشترطت إسرائيل على الطيارين الذين يلقون بأكياس الدقيق من الأعلى أن لا يلتقطوا صوراً لغزة. جزء من الصورة، نصيب من الحكاية، جانب من المأساة خرج بالفعل إلى العالم. صدام محموم بين الصحافة التقليدية التي بلغت مهنيتها ٣ أمتار تحت الأرض - حد وصف صحفي من اليسار الألماني - والوسائط الجديدة. صار السابع من أكتوبر إلى نسخة جديدة من الهولوكست، لا يجوز إعادة النظر في القصة التي هندستها إسرائيل حول ذلك اليوم. رسم الشيطان، عزل عن ماضيه وقصته، قدم بوصفه بهيموث لعين جاء من العدم وفعل كل أعمال الشياطين بلا سبب، في لحظة من الصفو والعدل غير مسبوقة في التاريخ ( هكذا تصور سوليفان الشكل الأوسط في لقاء صحفي قبل السابع من أكتوبر بأسبوعين).
ولكن العالم قرر الخوض في المسألة، وهي مخاطرة يدرك الحقلان الأكاديمي والإعلامي في الغرب مدى خطورتها. كثيرون، أفراداً ومؤسسات، دفعوا أثماناً باهضة بالفعل.
ثمة قصة أخرى روتها الصحافة الإسرائيلية ذاتها: ١٢٠٠ إسرائيليا سقطوا في السابع من أكتوبر، نصفهم من الجيش والشرطة سقطوا في مواجهات مباشرة مع المسلحين الفلسطينين. البقية سقطوا أثناء قتال ضار اشتركت فيه الدبابات والمروحيات. وبحسب تقارير أمنية مبكرة نشرتها هآرتس وغيرها فإن ٣ إلى ٥ أطفال إسرائيليين فقدوا حياتهم في تلك المعركة.
هذه الحكاية غير مقبولة ومعادية للسامية،. الغرب لا يحب السامية، يحتقرها ويحب أموالها.
لم يخب الرجاء في النظام السياسي الغربي، بل بمنظومة الليبرالية. فبعد عشرة أيام من القرار الذي أصدرته محكمة الجنايات الدولية تجاه نتنياهو بادرت صحيفة وول ستريت جورنال إلى اتهام كريم خان بالتحرش الجنسي بموظفة في المحكمة. أمام ضغط من الصحافة الليبرالية، دفاعاً عن زعيم فاشي، استقال موظفون رفيعون من المحكمة، وجمّد كريم خان وهو الآن تحت المحاكمة وسيصدر بحقه حكم في سبتمبر القادم.
صراع ثقافي محتدم بين القوة والحقيقة، بين الفاشية الاستعمارية واليسار الجديد، بين الأجيال، بين الحرية وصورة خادعة من الحرية، بين الليبرالية التوراتية وتيك توك، بين نسخة أميركية من الرب ونسخة إنسانية عالمية من الإله. * (من صفحة الكاتب على فيس بوك)