حالة الصمت الإقليمي التي ترافق التطورات الهائلة التي تعيشها المنطقة، تركت مساحة مريحة لإيران لتتحرك تكتيكيًا لإنقاذ مشروعها الذي تعرض لنكسات ضخمة في أهم حلقاته: حزب الله، النظام السوري بقيادة الأسد، ناهيك عما تتعرض له مليشياته في العراق من ضغوط الدولة العائدة، كما يبدو، برافعة وطنية بعد سنوات من الانهيار.
النظام الإيراني في هذه المساحة من الفراغ، يحاول أن يحول السقطة إلى وثبة، كما يقول المثل اليمني، باتباع سياسة مخاتلة مزدوجة:
ولترسيخ هذه السياسة التي تؤسس لجولة أخرى من إحياء المشروع إياه، فقد شهدنا خطابات متتالية لقيادات النظام الإيراني تبشر بعدم الاستقرار في سوريا، وآخرها مقابلة وزير الخارجية عراقجي الذي تنبأ بمواجهات عسكرية شاملة في سوريا، وهي المقابلة التي توعد فيها بدعم الحوثيين ساخرًا من كل الجهود الإقليمية والدولية الرامية إلى تحقيق السلام في اليمن، وتجنيب المنطقة كارثة المواجهة العسكرية
2. وهنا نأتي إلى الجبهة الأخرى، أي جبهة الحوثي، التي أبقاها النظام الإيراني مشتعلة. فما كدسه في مستودعات الحوثي ومخازنه وأنفاقه وكهوفه من الصواريخ والمسيرات كافٍ للقيام بمهمة رفع الروح المعنوية لأذرعها المنهارة من خلال زج اليمن في معادلة "الردع" التي تخص النظام الإيراني وحده؛ وهي المعادلة التي لم تعد فيها إيران تتجرأ أن تطلق صاروخًا واحدًا من أراضيها، فطالما أن هناك من يتكفل بتولي المهمة، ويتحمل ما سيسفر عنها من خرائب نيابة عنها، فلا بأس أن تواصل سياستها المزدوجة تلك بانتظار ما ستسفر عنه المتغيرات.
الحوثي، الذي لا يعنيه من أمر اليمن شيئًا، هو الطلقة الأخيرة في مدافع آيات الله والحرس الثوري الإيراني، والذي أخذوا يناورون به في عملية مكشوفة، فيما عرف بالتعويض النفسي للضرر الجسيم الذي تعرض له الاستثمار الإيراني المكلف في مشروع فاشل، والذي كان على حساب الحياة المعيشية للشعب الإيراني. وحتى لا يتساءل الشعب الإيراني عن المليارات التي أنفقت في هذا المشروع الفاشل، والذي بسببه عاش أكثر من ثلثي الشعب تحت خط الفقر، فقد أبقى النظام جبهة الحوثي مشتعلة بتلك الكيفية العشوائية التي يراد لها تغطية الفشل الذريع لهذا المشروع، وهي الجبهة التي تعمل "تل أبيب" اليوم على توظيفها في إقناع العالم بأن ما يحيط بها من مخاطر يضعها في مواجهة دائمة مع هذه المنطقة التي "لا تنتج غير العنف والإرهاب".
والحقيقة هي أن إيران تدرك، ويدرك معها الحوثي، أن المسيرة، أو الصاروخ الذي يطلق هنا أو هناك نحو الأراضي المحتلة لا يؤثر قيد أنملة في مجرى الأحداث، بقدر ما يوفر المبررات لإسرائيل لمواصلة الحرب والمزيد من التدمير، كما أن الحوثي الذي دمر اليمن، وهجر أبناءها وشردهم، وأودعهم السجون، وأهدر كرامة من وقع في يده من نساء اليمن، واختطف الشباب وأخفاهم في سجون لا تقل بشاعة عن صيدنايا، وزج بهم ليحترقوا في معارك الانتقام من معاوية وعائشة ومن الجمهورية، من السخرية أن يدعي الغيرة على كرامة الفلسطينيين، وما هي إلا لعبة أخذت أعمدتها تتداعى وتتكشف منذ اليوم الأول عن حقيقة قوامها استثمار موارد الشعب الإيراني في مشروع طائفي هلالي يمتد من طهران مرورًا ببغداد، دمشق، بيروت، صنعاء على أن تستكمل دائرته عند نقطة على الخليج العربي لتضع ثروات ومصير المنطقة كلها في قبضة نظام الملالي الإيراني، وعندها تستطيع إيران أن تساوم العالم وتعيد دورها كشرطي يحرس بوابة القادمين إلى هذه المنطقة من العالم، وهو الأمر الذي طالما حلمت به وعملت بقوة وبكافة الوسائل من أجله.
ويبقى السؤال الذي لا بد من أن نتوقف أمامه للرد عليه بمسئولية، وكنت قد ناقشته في مقالات سابقة، ويتعلق بالدور الذي تعوله إيران على الحوثي في جعل هذه السياسة المزدوجة وسيلة للمراوغة في انتظار ما ستستقر عليه الأحداث، لتقرر بعد ذلك الخطوة التالية.
يتضح من التصريحات التي أطلقها وزير خارجية إيران بأنهم سيواصلون دعم الحوثي، أنهم متمسكون بالنهج العدواني تجاه اليمن والمنطقة بشكل عام. وهو ما يعني أن الاتفاق السعودي الإيراني الذي نص على اتباع منهج سلمي يضمن استقرار المنطقة، وعدم التدخل في الشأن الداخلي لأي بلد قد خرقه النظام الإيراني بشكل سافر بهذا التصريح، وهو تطاول فج على كل الجهود المبذولة لتحقيق السلام في اليمن، وفي المنطقة عمومًا، على الرغم من أن الجميع يدرك أن النظام الإيراني واصل دعمه بالسلاح للحوثي.
هذا التصريح، وبهذا الشكل الفج، يعني فيما يعنيه أن خيار النظام الإيراني قد استقر عند تحويل ذلك الجزء من اليمن الذي يقع في قبضة الحوثي إلى مركز تجمع عسكري لأذرع إيران، وهو المركز الذي سيشكل بؤرة حرب في خاصرة المنطقة، وسيُعزز بالإمكانيات التي كانت تقدم للجبهات الأخرى، وستوكل إليه المهام اللوجستية التي كان يقوم بها حزب الله في لبنان.
وبالنظر إلى خطورة ما يسعى إليه النظام الإيراني، فإنه لا بد من مناقشة هذه المسألة بقدر من التفصيل لمعرفة العوامل التي يتوقف عليها تحقيق ذلك:
*من صفحة الكاتب على الفيسبوك