في 29 مارس (آذار) 2022 التقى في مقر مجلس التعاون لدول الخليج العربية عدد من اليمنيين بمختلف توجهاتهم السياسية والفكرية، عدا جماعة "أنصار الله" الحوثية، بدعوة من الأمين العام السابق للمجلس نايف الحجرف، وتوزع المشاركون على لجان عدة، كان أهمها ما سمي بـ "المحور السياسي" الذي ضم أغلب الأمناء العامين للأحزاب وممثليها وعدد من أعضاء مجلس النواب والشورى، وممثلون عن "المجلس الانتقالي الجنوبي"، وقلة من المستقلين، وكان عنوان الدعوة "المشاورات اليمنية – اليمنية".
خلال الأيام السبع التي شكلت عمر "المشاورات" لم يمر ببال أحد من المشاركين، أو هكذا أظن، أن تسفر تلك اللقاءات عن الخروج بهيكل جديد لإدارة السلطة الشرعية بعد 10 سنوات من حكم الرئيس عبد ربه منصور هادي (2012 – 2022). والحقيقة هي أن الرجل كان قد أضحى عبئاً ثقيلاً على الحياة السياسية، وأظهر عجزاً في إدارة قمة السلطة التي احتكرها مع دائرة ضيقة جداً، كما لم يتمكن من إظهار أي من المهارات التي تقتضيها واحدة من أصعب فترات الحكم في اليمن، وقضى معظم وقته خارج البلاد، ولم يكن قادراً صحياً على متابعة الأعمال اليومية التي تقتضي الحسم واتخاذ القرار فيها.
إنني لا أشكك مطلقاً في نوايا الرئيس هادي ولا أجادل في حبه لليمن، وأمتلك تفاصيل كافية للحكم على الأجواء التي عاشها وتأثر بها، ولكني أتناول الرجل من زاوية المتابع للتقلبات التي مرت بها البلاد خلال تلك السنوات العشر وظهرت تبعاتها الكارثية أمام الجميع، وتسببت طريقة تفكيره وعمله في الوصول بالبلاد الى المأزق الذي تعيشه منذ تخلى عن السلطة فجر يوم 7 أبريل (نيسان) 2022 واختفى بعدها عن الأنظار. توقع كثيرون أو تمنوا أن يكون هيكل الحكم الجديد (أقصد مجلس القيادة الرئاسي) بوابة مناسبة لدخول مرحلة من التفاهمات حول القضايا الكبرى بين قادة الكيانات المسلحة، وأن يعمل هؤلاء مع الأعضاء الباقين على استعادة نشاط المؤسسات التي تحولت خلال العقد الماضي إلى مجرد حقيبة متجولة في يد المسؤول الأول فيها، واختفت كل أجهزة الرقابة والمحاسبة، ولم يعد الناس يشعرون بوجود سلطة يلجأون إليها.
ولكن الجميع، بمن فيهم أعضاء "المجلس" اصطدموا بواقع من الصعب تجاوز عراقيله ومطباته ولم يتمكنوا من الانتقال إلى مساحات أكثر استقراراً، ولم يكن مرد ذلك نقص الموارد فقط، وإنما لأن الجميع اكتشف أن تجاوز الأزمات لن يتم لمجرد الرغبة في ذلك، وإنما يستدعي الأمر تفاهمات حول المطلوب والمتاح والممكن لمواجهة الخصم الوحيد الذي يفترض أنهم جاؤوا لمواجهته والسعي للخلاص منه في طريقهم نحو "استعادة الدولة" وتحقيق شعار "قادمون يا صنعاء".
في موسم الحصاد، يجمع المزارع نتاج ما بذر في الحقل ورعى خلال الموسم، ثم يذهب بالمحصول إلى "البيدر" (مكان جمع الحصاد)، وحينها تظهر له الحقيقة عارية من الوهم والأمنيات، وهنا أكرر ثلاثة أسئلة تكون الإجابة عليها فاضحة وكاشفة: السؤال الأول: هل يستحق أعضاء مجلس القيادة والهيئات المسماة مساندة له (رئيس هيئة التشاور والمصالحة ونوابه الأربعة، وأعضاء اللجنتين الاقتصادية والقانونية) ما يتسلمونه من مستحقات (سواء كانت من المال العام أو منحة خارجية)؟ وما هو المقابل الذي يؤدونه للمواطنين؟ علماً بأن اجتماعاتهم في أغلبها غير معلنة وتنعقد عبر الزووم، كما يمكن مقارنتها، إن حدثت، بظهور مذنب هالي الذي يطل على الناس كل 76 سنة.
السؤال الثاني: هل تصل إلى مسامعهم تعليقات المواطنين حول أدائهم وشبهات الفساد والعبث بالمال العام التي تطاول الكثيرين منهم؟
السؤال الثالث: هل سأل أي منهم نفسه: ماذا سيقول عنه الناس عنه بعد عمر طويل؟ طبعاً هذا إن كان يهمهم الأمر.
ليست مبالغة القول إن الإجابة النزيهة عن هذه الأسئلة التي تدور في أذهان الكثيرين منا هي خريطة طريق لخلق الثقة ونشوء علاقة سوية وشفافة بين الحاكم والمحكوم، ومن المهم تناولها بعيداً من المزايدات لتفتح أبواباً واسعة لحوار عاقل يؤسس لاستقرار سياسي واجتماعي يحتاجه مجلس القيادة الرئاسي الذي أنيطت به مسـؤولية السير نحو السلام بعد أن ثبت عدم نجاعة الحل العسكري منذ عام 2015.
المطلوب من مجلس القيادة بذل جهود حقيقية لمواجهة الواقع وإيجاد حلول ملموسة للأزمات وهو لم يظهرها حتى الآن، وأن يعقد اجتماعات مستمرة بكامل أعضائه يجلسون فيها أمام بعضهم ليتصارحوا ويجيبوا على كل الأسئلة، ولا يكفي التدليس على الناس باستمرار القول إن المجلس متماسك، لأن الجميع يعلم أن أعضاءه لم يتوافقوا، بعد صراع مرير، إلا على قضية واحدة هي تحديد مكافآتهم والهيئات التابعة لهم.
إن الحديث عن حل مستدام يخرج الناس من قعر الأزمة التي نعيشها يستوجب، من دون تزييف ولا مجاملة، التفكير بإعادة ترتيب السلطة الحالية، لأنه من الواضح أن الهيكل الذي أُنتج في 7 أبريل 2022 لا يمكنه تسيير البلاد حرباً أو سلماً.
وهنا يقفز السؤال الأهم: كيف يمكن حدوث ذلك؟ إذ إن تكوينات 7 أبريل كانت ممهورة بتوقيع الرئيس عبد ربه منصور هادي وحينها كان يمتلك كل الصلاحيات الدستورية اللازمة لإعادة بناء المؤسسات. أما اليوم فالأمر غاية في التعقيد ولا أتصور، وأتمنى أن أكون مخطئاً، وجود مسار آمن للخروج لأن اليقين أن المصلحة الوطنية تلي المكاسب المادية ومباهج الموقع.
في عام 1966 غنى عبد الحليم حافظ (جانا الهوى) التي كتب كلماتها الشاعر المصري محمد حمزة، وكان من أشهر مقاطعها (اللي شبكنا يخلصنا).
*أندبندنت عربية