أقرب توصيف لحالة الصمت والترقب القائمة في اليمن، أنه صمت "مدوّ"، يصمّ الأذان المتلهفة لسماع الحقيقة!
فمنذ أن أعلن عن زيارات ووساطات متعددة، إقليمية ودولية، الأسابيع الماضية، والأخبار المتداولة لا تخرج عن إطار حرب الإشاعات المستمرة، التي تُنهك عامة الناس أكثر من الصراع المباشر.
نعم توقفت المواجهات العسكرية الواسعة بشكل واضح ومن دون أي هدنة رسمية أو رعاية دولية، مجرد تفاهمات متعارف عليها، وتواصلات معلنة وغير معلنة، أفضت إلى صمت منهك، وتُركت بقية جوانب الحرب قائمة من اقتصاد متردٍ يهدد قرابة سبعة عشر مليون إنسان بالجوع، وقرابة أربعة ملايين نازح داخلي يعانون الأمرّين، إلى عملة نقدية مقسمة وإلى حرب نفسية تستنزف الروح وتعمل على قتل الأمل.
المشهد الغرائبي مرده إلى عمق الانقسام الذي أحدثته الحرب في المجتمع اليمني.
أما السلام فهو مطلب الناس وأملهم، ولكن يبقى السؤال كيف يكون ذلك؟
والأهم إذا لم تذهب الأمور إلى معالجة جذور المشكلة، فنحن نُغلق على الجرح بعملية إقفال سريعة لا أكثر، حيث سيبقى عفن الجرح لحرب تلد أخرى.
فالحرب المؤلمة القاسية التي ابتُلي بها الشعب اليمني لم تكن حرباً عبثية كما يطرح البعض، بل هي دفاع عن دولة انهارت ووطن يُختطف الآن، ورفض لمحاولة تكريس واقع صراع جهوي - مناطقي مسلح بنظرة دينية مذهبية مغلقة.
وبالتالي الذهاب إلى السلام بحاجة إلى شجاعة في طرح حلول تعمل على وقف النزيف أولاً، والأهم إلى معالجة جذور الصراع.
وما جرى من سيطرة ميليشيات الحوثي على صنعاء في 21 أيلول (سبتمبر) 2014، يجب توصيفه بشكل أكثر دقة، فهو ليس انقلاباً فقط ينتظر اعترافاً خارجياً، بل هو تمرد ضرب مؤسسات الدولة الشرعية، وجريمة بحق حالة الإجماع الوطني الذي كان قد وصل إليه الناس، ذاك هو الأمر باختصار.
فالجرائم بحق المجتمع، ليست مجرد تعبير عن وجهة نظر، وإرهاب الناس بالقوة ليس ثورة تعكس غضب الشعب وتطلعاته ويمكن أن تجد مباركة وطنية كما يتوهم البعض، بل ذاك تمرد عمد الى ضرب مؤسسة الدولة، وجريمة مستمرة بحق حاضر الوطن ومستقبله.
والأخطر بهذا الجُرم أنه عمد الى منهج يخلق تشظياً مجتمعياً يمزق نسيج المجتمع كل يوم، سنعاني منه لفترة ليست بالقصيرة. وجوهر الصراع الواضح في اليمن والأهم هو أن الناس لا يقبلون باحتكار السلطة والثروة واختطاف القرار بيد جماعة أو منطقة أو فئة. فقد ولّى عهد القبول بمنطق الغلبة واحتكار السلاح وبالتالي التحكم بالبلد من فئة ضد بقية المجتمع.
والأهم أن هذا المجتمع خبر الديموقراطية ويعرف أسسها وبالتالي لا يمكن القبول باحتكار القرار والبلد، ولا القبول بقلب حقائق الجغرافيا والتاريخ، تحت أي مسمى، بل علينا القبول بهذا التنوع المجتمعي الخلّاق الذي سيكون مصدر قوة عند الاعتراف به ويصبح وقود كارثة عند تجاهله.
وبالتالي فإن أي حوار يتجاهل تلك البديهية سيعيد فقط كرة الحرب إلى وسط ملعب مشتعل.
نعم الناس بحاجة للسلام حقاً، ولا يقتصر ذلك على توقف المواجهات العسكرية، والتزام الحوثي عدم تهديد الأمن الإقليمي والدولي، ولكن لتحقيق السلام الداخلي وعدم تهديد الأمن المجتمعي، وهو الأهم في هذه اللحظة، وخلق الشعور بالأمان في أعماق اليمنيين، وعودة الثقة التي ضُربت في الصميم، وتلك أمور لا تحتاج الى بيانات دولية فقط، بل بحاجة إلى بشر على الأرض يفتحون الطرق المغلقة بين المدن والقرى، ويقفلون ملف الاختطاف والسجون، وبحاجة إلى وقف عبث تقسيم العملة الوطنية، الذي يريد به الحوثي، ليس فقط سرقة الأموال، ولكن تقسيم اليمن، في سابقة انفصالية لم تحدث في التاريخ، وبحاجة إلى رفع نقاط التفتيش بين المدن التي تخلق صراعاً مناطقياً ومذهبياً مؤلماً، وقبل وبعد، بحاجة إلى إنهاء حصار مدينة تعز الذي سيبقى وصمة عار وذكرى مؤلمة تشهد على مدى تجذر الحقد الطائفي الذي وصل إليه اليمن.
تلك القضايا هي ما يفتح مسار السلام في اليمن وهي الخطوات التي يريد الناس رؤيتها تتحقق، للخروج من الكارثة.
لذا فقرار السلام بحاجة إلى شجاعة أكبر من قرارات الحرب دوماً، وهو بحاجة إلى القوة الوازنه المؤمنة بالحقوق المتساوية للجميع وبالنهج الديموقراطي في الحكم، والمحتكمة الى العقل والمنطق، وليس الرضوخ للمنطق الخارج عن القانون.
نعم تعب الناس من الحرب وكرهوها، ولكن معالجة وقف الحرب تكون في معالجة أسبابها وبشجاعة.
*نقلاً عن "النهار"