لا أجد في «الجهل» ببعض الأمور نقيصة تُذري بأيّ أحدٍ، طالما بقي هذا «الجهل» خاملاً ومستتراً في محضن الصّمت، مستقرّاً في جَنان صاحبه؛ فالإحاطة بكلّ شيء أمر لا يتفق إلا للقلّة من النّوابغ، ولهذا فالصّمت عمّا نجهل «ضرورة» حتمية، وواجب يقتضيه العقل السليم، ولكن أنْ يتجرّأ «الجاهل» بأن يجعل لجهله لسان جهر فاضحا، وبوق نعيق سافرا؛ فحينئذٍ يصير جهله «نشطاً»، تُخشى عواقبه، وتتفاوت درجات تأثيره وخطورته تبعاً للموضوع الذي اقتحمه بغير هدًى منه ولا بصيرة..
إنّ فطنة القارئ، ستدرك للوهلة الأولى أنّ التوصيف أعلاه، متّصل بالتصريحات غير المسؤولة التي أطلقها وزير الإعلام اللبناني، جورج قرداحي، بشأن الحرب في اليمن، وهي تصريحات كشفت عن جهل غير خليق بإعلامي في مدارج الابتداء والعتبات الأولى في سُلّم الإعلام، ناهيك عمّن أنفق فيها عمراً مديداً، كما كشفت عن تسطيح ما كان ينبغي أن يصدر ممّن جلس على منصة استدرار المعلومات العامة من مُستضافيه في البرنامج الشهير «من سيربح المليون؟»، فلو أنّ «قرداحي» أنصف نفسه، واتّبع ذات الوسائل الثلاث في البرنامج المذكور؛ من حذف لإجابتين، أو اتصال بصديق، أو استعانة بالجمهور، لأمكنه الوصول إلى «الحقيقة» والإجابة الصحيحة، ولترقى في مصاف المعرفة إلى درجة «العوام» من النّاس فقط، من الذين يعرفون دوافع حرب اليمن، ودور قوات الحلفاء فيها، والأخطار المحدقة بها وحولها، من الترصّد والأجندة المفخخة التي يسعى النّظام «الصفوي» في «قم» إلى إشاعتها في المنطقة؛ فهذه -يا «قرداحي»- معلومات «بسيطة» وواضحة، و«سهلة»، ومبذولة لمن «هبَّ ودبَّ».. إنها تشبه السؤال «الساذج» الذي تطرحه في بداية «من سيربح المليون؟»، بغرض «فتح شهية» المُستضاف، وبثّ الطمأنينة في روعِه، وحثّه على المضي في كسب مزيد من النقاط، ولا أظنّ أنّ أحداً فشل في الإجابة عن السؤال الأول، أو أنفق خياراته الثلاثة في الإجابة عنه، وهو ما كان حريّاً بـ«قرداحي» أن يدرك الإجابة عنه بروح العوام، والسذّج البسطاء، وما كنا لنسخر منه لو طلب حذف إجابتين، أو اتصل بصديق، أو حتى استعان بجمهور غير «حزب الله»، فإنّه لا شكّ كان سيصل إلى إجابة تصادم وتناقض ما صرّحَ به، وتقعّرَ في توصيفه بلسان «الخبير السياسي»، وهو ليس أهلاً للخوض في ذلك، ولو أنّه اكتفى من مسيرته الإعلامية بما قدّمه في مساحة الترفيه، والعطاء الاجتماعي من خلال برنامجيه «من سيربح المليون؟» و«المسامح كريم» لكان جديراً بالاحترام، وقميناً بالإعجاب، كفاء شهرته فيهما بما لا يُغمط حقّه، أو يستهان بدوره فيهما، وواجب النَّصفَة يقتضي هذا، بمثل ما يقتضي أيضاً النقد والسخرية من تعدّيه هذا المحيط إلى «السياسة»، التي ليس له فيها شروى نقير، أو مسكة من معرفة، تعصمه من هذه السّقطة المُذلّة، والموقف المهين..
لقد كان من الممكن أن نحاول، ما استطعنا من سعة «ضبط النفس»، التعامل مع تصريحات «قرداحي» بمفهوم أنّ «الشيء من معدنه لا يُستغرب»، وبقناعة أنّه كشف بقوله ما كان يستره السّكوت من جهله، ولكن أن يسعى هو وحكومة الرئيس «ميقاتي» إلى إيجاد مبرّرات؛ بالإشارة إلى أنّ هذه التصريحات صدرت من «المذكور أعلاه» قبل توليه حقيبة الإعلام في حكومته، فنحن في هذه الحالة أمام وضع أشدّ مضاضة، وأدعى للاستغراب، فطالما هذه هي آراء «قرداحي» قبل «الاستوزار»، فتعيينه لا يخرج عن أحد أمرين؛ إمّا أنّ هذا هو موقف حكومة «ميقاتي» نفسها من حرب اليمن، أو أنّها «تجهل» هي الأخرى تداعيات مثل هذه المواقف والتصريحات المسيئة، والتي أفضت إلى ما أفضت إليه من أزمة دبلوماسية شديدة التعقيد، والتي سيكون لها ما بعدها، ولن تعود الأمور إلى سابق عهدها، بالاعتذارات العارضة، والوساطات الإقليمية والعالمية، مهما كان درجة تأثيرها.
إنّ أبسط وأوضح حلٍّ أمام حكومة «ميقاتي» منظور في إعفاء «قرداحي» من وزارته، وليس انتظار استقالته بنفسه، فضلاً عن الاعتذار عمّا بدر منه؛ بلغة لا تقبل التأويل أو المراوغة بالتبرير.. وليس هذا الموقف المرجو والمطلوب من قبيل فرض الوصاية على لبنان، أو التدخّل في شؤون الداخلية، على الإطلاق؛ بل هو الموقف المعقول واقعاً وحالاً، كون تصريحات «قرداحي» كانت تدخّلاً في شأن إقليمي بلغة تفتقر للدبلوماسية والكياسة السياسية، واللباقة الإعلامية، ولا يشفع له أنّه صرّح به قبل استوزاره، فإنّ ذلك كان حريّاً بأن يُخرجه من دائرة الترشيحات لوزارة الإعلام، فضلاً عن أن يختار لها.
إن استمرار حكومة «ميقاتي» في الالتفاف حول هذا الحل الواضح، والإشارة ضمناً لموضوع التدخل في الشأن اللبناني الداخلي، لن يزيد الوضع اللبناني إلا تعقيداً على المستويين الداخلي والخارجي، وعلى حكومته أن تعي جيداً أن الاهتمام والعناية من قبل دول الخليج بلبنان -سابقاً وحالياً ولاحقاً- كان، وما زال تقديراً لخطورة الوضع «الهش» الذي يعيشه هذا البلد الشقيق، وحرصاً على تجنيبه مزالق السقوط جراء الاحتراب الطائفي، والمطامع الصفوية، وعمالة مليشيا حزب الله لصالح أجندة النّظام الصفوي المفخّخة، وهو وضع يتعدّى في خطره الداخل اللبناني ليخيّم على المحيط الإقليمي، والأمن الخليجي على وجه التحديد، وليس في هذا تسامح أو إغضاء أو مجاملة!
*نقلاً عن عكاظ