عشنا نعرف تونس بأنها تونس الخضراء، والذين زاروها يعرفون أن السبب وراء اشتهارها بذلك، أن الخضرة تغطي الكثير من مساحتها التي تنام على كتف البحر المتوسط. وعشنا بالتوازي نسمع عن أن الاسم المعتمد لليمن في كتاب التاريخ هو اليمن السعيد، ولكننا لا نعرف إلى اليوم على سبيل اليقين، لماذا اشتهر اليمن بسعادته من دون سائر البلاد، ولا ما إذا كانت السعادة قد رافقته في كل مراحل تاريخه، أم أنه قد صادف في سبيله ما جعل حكاية اليمن السعيد هذه تتبدد وتتبخر، ثم تصير اسماً على غير مسمى؟! والأسباب التي تقال عن دواعي سعادته المرتبطة به والمرتبط بها كثيرة ومتنوعة، ومن بينها على سبيل المثال ما يقال في كتاب هنا وفي كتاب آخر هناك، عن أن الإسكندر الأكبر حاول في أيامه قبل ميلاد المسيح عليه السلام غزو الأراضي اليمنية، لولا أنه عجز عن دخولها أو اقتحامها، وقد جاء من بعده مَنْ اعتبر ذلك من بين دواعي سعادة البلد، فاشتهر اليمن بسعادته التي لم يعرفها بلد آخر سواه، إذا ما كان المعيار في السعادة هو عدم قدرة الإسكندر بجلالة قدره على الغزو والاقتحام!
ولو أرخينا الخيط الممتد وراء التقصي عن أسباب أخرى لهذا المسمى الفريد، فسوف نعثر بالضرورة على الكثير، لولا أن هذا الأمر ليس هو موضوع هذه السطور. إن الموضوع هو العكس، وبمعنى آخر فإن الموضوع هو هذه التعاسة التي تتبدى على وجه اليمن منذ أن عرف على أرضه هذه الجماعة المسماة الجماعة الحوثية، لأنه ليس من المتوقع أن تبقى السعادة صفة لليمن أو حالة لليمنيين، ما دام الحوثي يمارس هذه الحماقات على أراضيه، وما دام الحوثي يتصور أن اليمن ملعب يتسع لفساده وإفساده معاً. فإذا سألتني عما جعلني أفكر هذه الأيام في سعادة اليمن التي كانت، ثم في تعاسته الحاضرة أمامنا، فسوف يكون الداعي إلى ذلك بالنسبة لي، هو وصول المبعوث الأممي الجديد هانس غروندبرغ إلى صنعاء صباح الخامس من هذا الشهر.
كان الأمل أن يكون وصول الرجل من بين أسباب التفاؤل لعدة أسباب، أولها أنه كان سفيراً للاتحاد الأوروبي في العاصمة اليمنية من قبل، ومن شأن ذلك أن يجعله على دراية بأحوال البلاد، وأن يكون محيطاً بالكثير من تضاريسها السياسية والجغرافية، وأن يكون بالتالي أقدر ممن سبقوه على التعامل مع هذا العبث الحوثي الذي لا يهدأ ولا يريد أن يتوقف. لقد سبقه المبعوث البريطاني مارتن غريفيث، ومن قبل غريفيث جاء المبعوث الموريتاني إسماعيل ولد الشيخ، ومن قبل ولد الشيخ جاء المبعوث المغربي جمال بنعمر، وقد ذهبوا وغادروا جميعاً لتبقى تعاسة أهل اليمن على يد الحوثي كما هي وزيادة! فهل يمكن الرهان على أن يتحقق لليمنيين على يد السويدي غروندبرغ، ما لم يتيسر على يد غريفيث، أو ولد الشيخ، أو بنعمر؟!
هذا جائز وارد وجائز من الناحية النظرية على الأقل، لا لشيء، إلا لأن المبعوث الجديد صاحب خبرة تمتد إلى 15 عاماً في الوساطة السياسية، وفي حل النزاعات، وفي التفاوض، وفي علاج الأزمات التي تشبه أزمة اليمن مع الحوثي، بالإضافة إلى عشرين سنة قضاها على صلة مباشرة مع القضايا الدولية التي تشغل العالم وتملأ عليه دنياه. هذه سيرة مهنية موجزة للرجل القادم إلى اليمن، وهي سيرة تؤهل صاحبها لأن ينجز في الملف الذي جاء من أجله، ولكن هذا وحده لا يبدو أنه يكفي.
وهو لا يكفي لأن الحوثي استقبل القادم الجديد بإطلاق عدد من المسيّرات والصواريخ في اتجاه الأراضي السعودية، ولم يكن إطلاقها بهذا العدد غير المسبوق، ولا بهذه الكثافة غير المعهودة، أمراً يجري على سبيل الصدفة، ولكنه كان عملاً حوثياً إجرامياً مقصوداً، وكان المقصود فيما يظهر أن يستعرض الحوثي عضلاته أمام المبعوث الذي كان قد وصل بالكاد! ولكن الأمم المتحدة التي أرسلت المبعوث السويدي تستطيع أن تجعل من سيرته المهنية سيرة كافية لتقديم ما يتعين عليه أن يقدمه في هذا الملف، إذا آمنت بأن إرسال مبعوث جديد من جانبها ليس هدفاً في حد ذاته ويجب ألا يكون، ولكنه وسيلة إلى إنقاذ اليمن من أيدي جماعة حوثية غير مسؤولة، وإذا أدركت أيضاً أن عليها أن تحشد المجتمع الدولي في اتجاه ردع طهران التي توجه الحوثي وتحركه. القصة في اليمن لم تعد في أن يذهب غريفيث من قبل، ولا في أن يجيء غروندبرغ من بعد، وإلا، فإننا سنظل نحصي المبعوثين واحداً وراء الآخر، وسنظل مشغولين بمن غادر منهم من دون أن يحقق ما جاء من أجل أن يحققه، وبمن وصل منهم وعنده أمل في ألا يتحول إلى نسخة ممن سبق! القصة لم تعد في هذا، لأنها إذا مضت هكذا، فسيكون المستفيد منها هو الحوثي ذاته، لا الشعب اليمني الذي قاده سوء حظه إلى أن يقع في هذا المنحدر مع جماعة حوثية، لا تؤمن بوطن لليمنيين يضمها وتنتمي إليه، ولا تعتقد في أرض يمنية لا بد أن تتسع لغيرها من الأطياف السياسية في اليمن كما تتسع لها. وإذا كان غروندبرغ على موعد في الغد مع إحاطة سوف يكون عليه أن يقدمها أمام مجلس الأمن، فمن الضروري أن يلتفت إلى أن الذين سبقوه قدموا إحاطات مماثلة من قبل أمام المجلس نفسه، ثم لم يتبين أن لأي إحاطة منها فائدة في تغيير الوضع اليمني على الأرض! عليه وهو يتهيأ لها أن يجعل منها إحاطة مختلفة عما سبقها، وهي لن تكون كذلك إلا إذا وضع صاحبها أعضاء المجلس الدائمين وغير الدائمين أمام الحقيقة عارية، وإلا إذا صارح الجميع في مجلس مهمته حفظ السلام والأمن الدوليين، بأن بقاء الحوثي في مكانه بالصورة الحالية يهدد الأمن الدولي بأكثر مما يهدده شيء آخر، ويضرب السلم الدولي في مقتله بأكثر مما يضربه أي شيء! وهل هناك ما هو أخطر من أن يكون عبث الحوثي بالمسيّرات والصواريخ على مرمى حجر من باب المندب، ومن خليج عدن، ومن بحر العرب، ومن البحر الأحمر نفسه على طوله وامتداده، وبكل ما يمثله ذلك بالنسبة لحركة التجارة العالمية؟! ليس على المبعوث السويدي وقد رأى المسيّرات والصواريخ تعربد في أول أيام عمله، إلا أن يضع في إحاطته الأولى ما هو مفيد في حل المعضلة التي طار من بلاده في أقصى شمال أوروبا من أجلها، ولن تكون الإحاطة الأولى منتجة في الدعوى كما يقول أهل القانون، إلا إذا تطلعت إلى القضية اليمنية من زاويتها الصحيحة التي تقول إن حلها يبدأ من طهران وليس من مكان آخر! ولأن طهران تعرف ذلك وتدركه، فهي تطلب الفصل في مفاوضات فيينا الجارية معها، بين برنامجها النووي الذي تتحدث عن سلميته، وبين سلوكها الإقليمي المفسد، وصواريخها الباليستية. هي تطلب هذا وتدعو إليه وتصر عليه، لأنها تعرف أن الملفات الثلاثة مرتبطة ببعضها بعضاً، وأن الفصل بينها يعني استمرار فوضى المنطقة التي تغذيها، ويعني دوام دورها المدمر في أرجاء الإقليم، الذي لا تتوقف عن إشعال النار في أكثر من ركن فيه. إحاطة المبعوث الجديد المرتقبة هي إحاطته الأولى، وعليه أن يجعل بينها وبين خبرته في حل النزاعات صلة قائمة، وهذه الصلة لن تقوم إلا إذا صارح أعضاء المجلس الذين ينتظرونه، بأن الحوثي ليس سوى ذراع ممتدة من إيران، وأن مواجهة الأصل أجدى وأنفع من تبديد الوقت والجهد مع الفرع! على أساس ما سوف يقال في الإحاطة المنتظرة، سوف يتقرر ما إذا كان غروندبرغ قد وعى درس المسيّرات والصواريخ التي استقبلته، أم أنه سيقضي أيامه كما قضاها غريفيث من قبل، وولد الشيخ، وبن عمر، وأمامه بالطبع أن يختار!
*نقلا عن الشرق الاوسط