شهدت العلاقات الدولية في الفترة الأخيرة توجه بعض الدول إلى فرض سياسة أو حكم الأمر الواقع، مثلما يفعل الاحتلال الإسرائيلي وتوسعه في الأراضي الفلسطينية، وهو النموذج الأكثر تجسيداً لسياسة فرض الأمر الواقع على الشعب والسلطة الفلسطينية بتناقض صارخ للشرعية الدولية وقرارات الأمم المتحدة، لتبلغ القمة في عهد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب، واعترافه بالسيادة الإسرائيلية على هضبة الجولان المحتلة منذ حرب 1967، وشرعنة واشنطن وجود المستوطنات بإسقاطها صفة «غير الشرعية»... واعترافها بالقدس عاصمة أبدية لإسرائيل. من نافلة القول إن المقاربة هنا بين سياسة فرض الأمر الواقع من قبل إثيوبيا تجاه نهر النيل في علاقتها بدولتي المصب، مصر والسودان، في إطار أزمة سد النهضة، لا تقارن بسياسة فرض الأمر الواقع التي عملت بها «حركة أنصار الله» الحوثية في مواجهة السلطة الشرعية في اليمن. فإثيوبيا ومصر والسودان هي دول ذات سيادة، أعضاء في الأمم المتحدة، وهذه الصفة ملزمة باحترام ميثاق الأمم المتحدة وقواعد القانون الدولي والاتفاقات بين الدول الموقعة من قبلها، بينما في حال الحركة الحوثية، فإنها حركة في الأصل من حركات التمرد التي لا تخضع لأي قواعد قانونية وطنية أو دولية، وإنما يحكم تصرفاتها وإدارتها للمناطق التي تسيطر عليها وفق مفهوم وفلسفة مؤسسي الحركة ومصالحها ومصالح حلفائها جوهر المقاربة والمقارنة، وتقتصر على الفعل ذاته باتباع سياسة أو عمل ما، وهم يدركون أنه سيؤدي إلى ردود فعل من قبل الأطراف المعنية مباشرة للفعل أو من قبل أطراف أخرى ترى في تلك السلوكيات رغبة في فرض الأمر الواقع على المجتمع الدولي عملاً مشيناً يتناقض مع مسؤوليات الدول في وجوب احترام قواعد القانون الدولي. وهذا بالإمكان قياسه من خلال مقارنة سريعة بين كلمات مسؤولي الدول الثلاث (مصر، والسودان، وإثيوبيا) أمام جلسة مجلس الأمن الدولي التي انعقدت يوم الخميس 8 يوليو (تموز) الماضي بطلب من كل من مصر والسودان. وسنبدأ بقراءة أولية لكلمة وزير المياه والري الإثيوبي، الذي افتتح كلمته مباشرة بالقول: «إن مناقشة مسألة سد النهضة الإثيوبي الكبير تضييع لوقت وموارد مجلس الأمن في الأمم المتحدة، فقد سبق أن قال مجلس الأمن كلمته في 19 يوليو 2020 بتشجيع إثيوبيا ومصر والسودان على مواصلة التفاوض لحل المسائل العالقة، ودعمتم العملية التي يقودها الاتحاد الأفريقي لتسهيل المشاورات والمحادثات. والمسألة برمتها تهدف من بناء السد إلى توليد الطاقة الكهرومائية، ما يمثل الأمل والطموح لـ65 مليون إثيوبي لا يحصلون على الكهرباء»، مضيفاً أن نحو 70 في المائة من مياه إثيوبيا تأتي من حوض النيل، مشيراً في هذا الصدد إلى نقطة جوهرية بقوله إن إثيوبيا ليس لديها بحر حتى تقوم بتحلية المياه، مقارنة بوضع مصر والسودان! لكن الوزير الإثيوبي أخطأ في نقطتين رئيسيتين؛ الأولى قوله إن «المشكلة الأساسية للنزاع بين الدول الثلاث هي السعي للحفاظ على الوضع الاستعماري والاحتكاري القائم في النيل... واستبدلنا بالادعاءات الاحتكارية والاستعمارية القانون الدولي المتفق عليه ومبادئه»، ربما فات الوزير الإثيوبي أن قانون تأسيس الاتحاد الأفريقي نص في المادة الرابعة، الفقرة «ب»، على احترام الحدود القائمة عند نيل الاستقلال، وهي المادة ذاتها التي أكد عليها ميثاق منظمة الوحدة الأفريقية، كما أن الاتفاقات التي تم إبرامها في زمن الاستعمار البريطاني التي أعطت حقوقاً لمصر في استغلال النيل تخضع لقواعد القانون الدولي، وفق مبدأ التوارث الدولي للمعاهدات الدولية. واختتم الوزير الإثيوبي كلمته بطلب أن يعيد مجلس الأمن ملف سد النهضة إلى قيادة الاتحاد الأفريقي، وطلب من مجلس الأمن أن تكون آخر مرة يناقش فيها سد النهضة الإثيوبي الكبير، فليس هناك موضوع يتعلق بولاية المجلس في السد! ونشير هنا إلى ما سبق أن ذكرناه في مقالنا الأخير أن المادة 34 من ميثاق الأمم المتحدة قضت بـ«أن لمجلس الأمن أن يفحص أي نزاع أو أي موقف... من شأنه أن يعرض للخطر حفظ السلم والأمن الدولي»، فإذا كان الفصل الثامن من الميثاق أقرّ بأهمية حل النزاعات في إطار التنظيمات الإقليمية قبل عرضها على مجلس الأمن، فإنه أكد في الوقت نفسه على ألا يعطل ذلك بحال من الأحوال المادة 34 المشار إليها أعلاه. وكانت الأمم المتحدة تتفادي البحث في موضوعات أزمة المياه، لما كلفت الجمعية العامة للأمم المتحدة «لجنة القانون الدولي» التي أنشأتها عام 1947 من أجل تعزيز التطور التدريجي للقانون الدولي وصياغة المعاهدات الدولية، وهو ما قامت به عام 1977 بصياغة «اتفاقية الأمم المتحدة حول الأنهار الدولية»، وتمت المصادقة عليها، ودخلت حيز التنفيذ في عام 2014. وأغفل الوزير الإثيوبي الحديث عن أحد المطالب الأساسية الذي دعت إليه مصر والسودان، وهو أهمية التوافق على التزام قانوني مكتوب مع إثيوبيا وعدم الاكتفاء بالتصريحات عن حسن نوايا إثيوبيا في خلافها مع دولتي المصب، على سبيل القول إن ملكية النيل تعود إلى كل بلدان الحوض، ومياه النيل تكفينا جميعاً. جاءت كلمتا وزيري خارجية دولتي المصبّ أمام مجلس الأمن متباينتين في الشكل والمضمون، ومتفقتين في نفس الوقت حول بعض مطالبهما الأساسية من مجلس الأمن الدولي. ركزت كلمة وزير خارجية مصر، سامح شكري، على أن بناء سد إثيوبيا يمثل تهديداً وجودياً حقيقياً لمصر، مندداً بالمسلك الإثيوبي الأحادي بملء السد من دون اتفاق، وجنوحها إلى فرض سياسة الأمر الواقع، ويعود فشل المفاوضات مع إثيوبيا لتعنتها وتوهمها أن النيل الأزرق هو نهر داخلي، يمكن استغلاله لمصلحتها الحصرية، بافتراضها أن هذا المجري المائي الذي ينساب بشكل طبيعي إلى أراضي دولتي المصب يمكن إخضاعه لسيادتها وسيطرتها. اتسمت كلمة الوزير المصري بشكل المرافعة القانونية والسياسية التي عمدت إلى تفنيد ادعاءات وتبريرات مواقف السياسة الإثيوبية إزاء مصر والسودان بمسحة قومية صبغها خطابه، بينما الوزيرة السودانية ركزت كلمتها على منطلق وطني سوداني عند ذكرها أسباب لجوئها إلى مجلس الأمن، لوجود سد ضخم مثل سد النهضة بسعة 74 مليار متر مكعب على بعد كيلومترات من الحدود السودانية، ومن غير تنسيق إجراءات السلامة مع مجتمعات أدنى السد، ما يشكل خطورة مباشرة على هذه المجتمعات. واتفق طرفا دولتي المصب على أهمية التوصل مع إثيوبيا لاتفاق ملزم قانوناً، واستئناف التفاوض تحت مظلة الاتحاد الأفريقي، مع اضطلاع المراقبين والوسطاء الدوليين بأدوار تيسير ووساطة، تساعد الأطراف على التوصل لاتفاق وفق إطار زمني محدد. وطالبت مصر صراحة مجلس الأمن بتبني مشروع القرار التونسي الخاص بسد النهضة، ومن المفيد التذكير هنا أن مجلس الأمن لم يتخذ قراراً بعد، ومن المعتقد أن ذلك سيتم في الأيام القليلة المقبلة. بالنسبة للشأن اليمني، فإن الحركة الحوثية منذ البداية وهي تتبع سياسة فرض الأمر الواقع على السلطة الرسمية اليمنية، وعلى المجتمع الدولي، حين قامت باحتلال صنعاء، عاصمة دولة عضو في الأمم المتحدة، من دون وجود ردّ فعل ملموس، ما شجّعها على التمادي في فرض عدة أمور على أرض الواقع. في بداية قرارات مجلس الأمن الدولي، منذ نشوء الأزمة اليمنية كان الخطاب صارماً وشديد اللهجة، وتحول بعدها تدريجياً إلى قرارات مهادنة لتصرفات وسلوكيات الحركة الحوثية التي شعرت مع قدوم إدارة الرئيس الأميركي بايدن، وإلغاء قرار سلفه إدراجها على قائمة المنظمات الإرهابية، واعتراف ممثل الرئيس الأميركي أنه التقى بممثلين للحركة في سلطنة عُمان، وهي التي يصرخ أعضاؤها «شعارهم الموت لإسرائيل الموت لأميركا». إن المجتمع الدولي لا يعترف إلا بسياسة الأمر الواقع الذي تفرضه بعض الدول أو الجماعات، ما يجعل قواعد القانون الدولي أمام المحك، وكذلك المؤسسات الدولية، مثل الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، فهل الشرعية الدولية أم سياسة الأمر الواقع هي التي ستنظم العلاقات بين الدول في علاقاتها بالمتمردين عليها؟!
*نقلا عن الشرق الاوسط