اللحظات الأخيرة للشجعان مزلزلة، أنفاسهم الأخيرة لهب، كلماتهم الأخيرة عواصف لكنها غالبا لا تجد الطريق، لا يلتقطها أحد، تخبو معهم أو في قلوب من حولهم، لا نصدقها حين تنقلها إلينا الألسنة، نتهمها بالتخريف والزيف، لكن حين تلتقط الكاميرا آخر ثلاث دقائق من حياة محارب غاضب وثائر، فإن الأساطير تفقد لمعانها أمام حقائق الأبطال الوهاجة، نفقد نحن وجوهنا، يتساقط لحمها، نتقزم، تشوهنا الحقيقة، تجردنا من الأنانية التي نرفضها بها حين نعاند أو نتغطرس لأسبابنا التافهة والرخيصة.
رأيت مقطع قصير، فيديو لآخر ثلاث دقائق من حياة أحد الشجعان الذين لا نعرفهم حتى حين يموتون، إلا نادرا.
مقطع زلزلني، أتلف أعصابي، جعلني أحشرج، أدثر النشيج بالخجل، فتتني هذا الفيديو، لكنه أيضا؛ جعلني أكثر إيمانا أننا سننتصر مهما حصل، سننتصر حتى لو لم يبق إلا محارب واحد بشجاعة وثبات وعنفوان ذلك الشاب الصنعاني الأنيق، بالغ الوسامة، الذي كان قد ذاق صنوف العذاب في معتقلات الحوثي لعامين كاملين، بعد اختطافه من منزله شأن كل الضحايا، وعندما خرج في صفقة تبادل، ذهب إلى الجبهة كواحد من المحاربين الشداد، كملك إسبرطة، بل لا كأحد، كما هو، استبسل حتى أُثخن، ثم قبل أن يودع في المشفى، ترك واحدة من رسائل الخلود في آخر ثلاث دقائق من حياته، كان لديه إصرار عجيب أن يسجل الفيديو، كان يقول للدكتورة التي تحاول توقفه حفاظا على صحته، خلاص يا دكتورة انتهى الأمر، لا تقاطعوني أبلغوا أمي وأبي وزوجتي وإخوتي في الجبهات أننا على الحق، قاطعوا مجددا لكنه حسم الأمر، انتهت حياتي خلاص، أنا أرى الحور العين في الجنة، نحن على الحق، انشروا رسالتي ، ثم يلهج بشهادة التوحيد ويموت كأسطورة.
ملعونة أيامنا الجبانة، ملعونة أقلامنا الرخيصة التي تنتقص من هؤلاء، ملعونة كلماتنا الاستعراضية، وبطولتنا الموهومة، ملعونة قصائدنا ومقاصدنا، ملعون كل نذل وساقط سخر أو انتقص من المقاتلين في خطوط التماس، هؤلاء هم الشرف ونحن العار، هؤلاء هم الرجال ونحن الأشباه، هؤلاء الذين يضخون دمهم ويمشون حفاة بلا رواتب، هم الحق والحقيقة وهم ألوان العلم الوطني، مهما حاول المأجورون أن ينالوا منهم، مهما تشدقنا عليهم بثقافتنا الجوفاء ومدنيتنا المشوهة ووطنيتنا الشاذة. مليون متقول، لن يكون بظفر متصدع في قدم مشققة لبطل في الجبهة.
المجد والخلود يا أستاذ عمر الريدي.