سيسجل كيوم استثنائي ومفصلي في تاريخ محافظة أرخبيل سقطرى اليمنية المشاطئة للمحيط الهندي. فقد استفاق سكان مدينة حديبو فجر ذلك اليوم الذي صادف الجمعة، على قذائف الدبابات والمدفعية تنهال على مدينتهم المسالمة، من قوات متمردة استحوذت على أسلحة اللواء العسكري الوحيد في المحافظة، فيما كانت تمهد بذلك القصف للهجوم الذي أرادت من خلاله هذه القوات السيطرة على المدينة ودحر السلطة المحلية الموالية للسلطة الشرعية بشكل نهائي.
ما حدث حتى الآن يتجاوز مفهوم التمرد ليصل إلى نصف انقلاب، وهو بهذه الصيغة يعد الثاني من نوعه الذي ينفذه الانقلابيون الانفصاليون على السلطة الشرعية تحت غطاء التحالف ودعمه، وإن كانت الإمارات تمثل رأس الحربة والمحرك الأساسي لهذا الانقلاب، كما كانت قبل ذلك الداعم الأساسي لانقلاب العاشر من آب/ أغسطس من العام الماضي في مدينة عدن.
هناك المئات من الضباط والجنود السعوديون المرابطون في محافظة أرخبيل سقطرى، والذين ينضوون في إطار ما تسمى بـ"قوات الواجب السعودية-808" بقيادة العميد عبد الرحمن الحجي، وهي مسلحة تسليحاً جيداً وتمتلك قدرة على التدخل لمعادلة الكفة العسكرية لصالح السلطة الشرعية إن أرادت، ولكنها لم تفعل، وكل ما فعلته أنها تحولت إلى قوة فض اشتباك، كما لو كانت قوة حفظ سلام محايدة، فيما أن دورها أصلاً هو دعم السلطة الشرعية.
استناداً إلى الوساطة التي مارسها قائد القوات السعودية، جرى التوصل إلى اتفاق لم يتجاوز حدوج الأطراف المباشرة في المواجهة العسكرية داخل الأرخبيل، إذ لم ترحب به الحكومة الشرعية علناً، ومع ذلك هناك على المستوى الميداني ما يؤكد أن الاتفاق دخل حيز التنفيذ، حيث يقضي بتسليم كافة النقاط العسكرية في مدينةِ حديبو إلى قوة مشتركة حكومية وسعودية، لتتولى حمايةَ منافذ مدينة حديبو والمؤسسات الحكومية فيها.
كما يقضي بانسحاب قواتِ الحكومة والقوات المتمردة إلى مواقعها السابقة، في معسكرات داخلَ المدينة بالنسبة للقوات الحكومية، وضواحِي المدينة بالنسبة للقوات المتمردة، وعدم تحريك أي قوة أو آليات من قيادة اللواء الأول مشاة بحري التي يسيطر عليهَا المتمردون.
لهذا يمكن وصف ما جرى في سقطرى بأنه نصف انقلاب، لأن هذه الترتيبات السعودية الهدف منها فرض حالة من تقاسم النفوذ المحفوف بالمخاطر، يستند إلى شرعية السلطة المحلية وإلى قوة الأمر الواقع التي يمثلها المتمردون، بعد أن سيطروا بالكامل على مخازن السلاح التابع للواء الأول مشاة بحري، وهو القوة العسكرية الضاربة في محافظة أرخبيل سقطرى.
قبل اندلاع مواجهات فجر الجمعة بين المتمردين والقوات الحكومية، كان المتمردون قد التقطوا تصريحاً من قائد القوات السعودية الذي أكد فيه أن دور قواته هو حماية سقطرى من العدوان الخارجي، على أن تبقى الصراعات التي تشهدها على المستوى الداخلي شأن أبناء سقطرى. وكانت إشارة كهذه كافية لكي يقوم المتردون بتحويل تمردهم إلى انقلاب وسيطرة كاملة على الأرخبيل الأهم الواقع بين خليج عدن والمحيط الهندي.
لم يسبق لمحافظة أرخبيل سقطرى أن شهدت صدامات أهلية في تاريخها المعاصر، ناهيك عن هذه الكثافة من الأسلحة الثقيلة والمتوسطة التي استخدمت في هجوم المتمردين الفاشل على مدينة حديبو. لم يقتتل أبناء سقطرى على نفوذ أو سلطة، بل كانوا على الدوام في وفاق، لم يمنع من بقاء بعض التباينات الطبيعية بين أفراد المجتمع السقطري باعتبارهم جزءا من المجتمع اليمني الكبير الذي تتجاذبه الانتماءات ذات الطبيعة الفكرية أو الأيديولوجية أو السياسية.
منفذو نصف الانقلاب لم يكفوا عن ترديد مطالبهم بتغيير محافظ المحافظة المعروف بمواقفه الصلبة والعنيدة تجاه مطالب المتمردين الموالين للإمارات، والذين تضخ هذه الدولة ملايين الريالات لاستمالتهم، ومثلها لاستمالة جنود وضباط اللواء الأول مشاة بحري؛ الذين ينتمي معظمهم لمناطق الضالع ويافع وأبين، وهو المثلث الذي غذى سلسلة لم تنته من الصراعات الجنوبية الجنوبية على السلطة.
وهذا البعد الجهوي يجري توظيفه بكثافة من جانب أبو ظبي، في تغذية دورة العنف التي كادت أن تغرق أرخبيل سقطرى الحالم والمسالم، والذي يتمتع بمزايا بيئة فريدية جعلته محط اهتمام العالم، باعتباره جزءا من قائمة اليونسكو لمحميات المحيط الحيوي.
لا شيء سوى المال هو من يحرك الجنود والضباط المتردين، وحتى بعض الوجاهات والعناصر القبلية التي تنتمي لمحافظة سقطرى، فجميعهم غيروا ولاءاتهم عدة مرات طيلة السنتين الماضيتين، بتأثير المال الإماراتي. وقد أخفى النشاط الإماراتي المحموم ضغينة ناتجة عن اضطرار أبو ظبي إلى إيداع وثيقة لدى الأمم المتحدة تؤكد فيها أن لا أطماع لها في الأراضي اليمنية، وبالأخص في محافظة أرخبيل سقطرى.
وقد جاء ذلك إثر تصاعد الخلاف بين الحكومة اليمنيةوالإمارات، في ربيع العام 2018، عندما تفاجأت الإمارات أن مخططها للاستحواذ على أرخبيل سقطرى، قد اصطدم بزيارة رئيس الوزراء السابق الدكتور أحمد عبيد بن دغر إلى الأرخبيل على رأس وفد حكومي كبير، محكوم بإصرار على استعادة النفوذ بعد غياب ثلاثة أعوام؛ وضعت خلالها الإمارات على كل مفاصل الحياة في الأرخبيل تحت تصرفها، عدا المعسكرات والقوات الأمنية والسلطة المحلية التي بقيت موصولة بحبل واهن مع السلطة الشرعية في الرياض.
وهذا يفسر لماذا قامت بعملية إنزال عسكري في سقطرى رداً على زيارة بن دغر، لأنها ببساطة أرادت أن ترجح الكفة العسكرية لصالح المواجهة التي قررت خوضها مع الشرعية اليمنية، على أرض يمنية.
ومن الواضح أن الإمارات فهمت حينها أن تصعيد الحكومة اليمنية قد جاء بإيعاز من شريكتها في التحالف، التي سرعان ما أرسلت لجنة الوساطة ثم أتبعتها بسلسلة من الإجراءات كان أخطرها إرسال تعزيزات عسكرية سعودية إلى سقطرى، ودعم عدد من المشاريع التنموية البسيطة، وهو الغطاء الذي مارست الإمارات نفوذها تحته طيلة السنوات الماضية والذي أدى إلى تلغيم سقطرى من الداخل، وخلخلة أو استمالة القوات الحكومية العسكرية والأمنية لصالح مشروعها، وهو جهد أثمر أخيرا التمرد الشامل للواء الأول مشاة بحري، وأسهم في تكريس نصف انقلاب آخر على السلطة الشرعية في هذا الأرخبيل الذي يبعد أكثر من ألف ميل عن أقرب جبهة عسكرية في البر اليمني.