يغني «أنور العنسي» ولا يكتب، يشتاق، يغرد، يصحو كالفجر من ظلمة ليل طويل، يرى ما لا نراه في «مرايا الأزمنة»، يلسعنا بخطوات الحبر في كل حرف يكتبه عن اليمن والعالم، عن الأمكنة التي زارها، وافتتن بها، عن القرية التي سمعت صراخه الوليد، وعن صنعاء التي بكاها وهي تخلع ثوبها الأسطوري، وتدخل مكرهة حلبة التعري أمام مجموعة من الحمقى الذين اختطفوها إلى الأبد.
- دراما «أنور العنسي» مبثوثة بحزن واضح، ملامح الأسى، والنهاية المأمولة لحالم بـ»إصلاح العالم»، ومثقف حقيقي تشرب أوعية الأدب والشعر والتاريخ، ونال مفردات الكتابة حتى صار أكثر الناس مهارة وسخاء.. بادية في ملامحه التي تتكوم أمامي في غبرة الزمن الضئيل، وتعكس لمحة دامعة من وجهه الضخم عبر «مراياه» التي اشتاقت لتراث صنعاء، وأحيت في القلب نكتة سوداء، عرجت بي إلى كتابه النثري المخيف.
- ما الذي جعل «أنور» مظلمًا، لِمَ لَم يعد ذلك السخي الذي استوقفه «الرازحي» ذات يوم ليشكو انزعاجه من جريان قلمه، وغزو إبداعه لمراجل الفن والأدب والشعر، والبرامج الذكية الشهيرة؟ أي ثقب أسود ابتلع «العنسي» فذهب بكيانه، وتركنا بلا وداع؟ لم يمت! لكنه اختفى، واليوم وقد عاد بكتاب الذكريات والأماكن أجدني ناقدًا معاتبًا ذاك الغياب، وقد جفت اليمن من الحب والعاشقين الذين كان «أنور» قنديلهم المتوهج دائمًا.
- هي الحياة إذًا، أم متاعب الرزق، وصداع العيال وقد كبروا وصاروا أكثر إلحاحًا على الأب بوضع نهاية لإبداعه من أجلهم، إنه خيار صعب، أنا وأبنائي، أم الآخرون الجاحدون؟
- منذ عام وكتاب العم «أنور العنسي» في خزانتي، هجرته في انشغالي بكتب أخرى وأفلام شائقة، ولما عدت إليه، وقد قرأت منه أربعين صفحة، وعدتني ألا يفارقني حتى النهاية، ومنها لم أنتهِ؛ فقد غمرتني الحكايات اللذيذة بدفء غريب، سافرت معه ولم أعد حتى الآن، من «الذاري»، تلك القرية المختبئة بحياء خلف الشجر، إلى لندن!
لقد كسر «العنسي» كل شيء، الذماري الذي غزا العالم، ومزج الحضارات بداخل كتاب واحد، ووحده فقط كان الرفيق الذي لا يمل، اشترى لي تذكرة ذهاب معه إلى ذمار، ثم صنعاء وتعز وعدن، سافرت وراءه إلى مجاهل إفريقيا، اقتفيت أثره في الدار البيضاء، مصر، الشام، بيروت، بغداد، طوكيو، نيويورك، ثم باريس، وأخيرًا لندن.. في ثلاث ساعات فعلتُ كل هذا، ولم أزل هناك مستلقيًا على حشائش خضراء قريبًا من ضاحية «جولديزر جرين».. تركني وحيدًا، ولم يعد معي شيء، حتى تذكرة الإياب.
وإلى لقاء يتجدد
*نقلاً عن الجزيرة السعودية