لا أعلم هل نفرح أم نبكي في هذا اليوم الذي خرجت فيه جموع الشعب اليمني بفئاته المطحونة إلى الشوارع للاحتجاج على الأوضاع الصعبة التي كانوا يعيشونها، ومخاوفهم من أن يزداد الوضع سوءا خاصة مع ارتفاع مؤشرات الفساد في اليمن التي تُعد من دول العالم الثالث والفقيرة.
يتذكر الكثير منا هذه المناسبة ويبتسم وتتوهج مشاعره مجددا كما لو أن الحدث قد تجدد في تلك اللحظات، فهناك الكثير من المؤمنين بتلك الانتفاضة بينهم الأطباء اليمنيين الذين شكلت ثورة فبراير أملا بالنسبة لكثير منهم، فقد عانوا من قبل حتى 2011 من التهميش وعدم التقدير، وكان راتبهم كموظفين حكوميين لا يتعدى في المتوسط 55 ألف ريال، وهو أمر يدعو للاستغراب، فكيف تقوم السلطة بمكافأة شخص قضى سنوات من عمره في الدراسة!
أدى ذلك إضافة إلى الظروف المعيشية الأخرى في اليمن ومعاناة المواطنين في شتى مناحي الحياة وكذا الفساد، إلى قيام الطبيب اليمني بدوره وخرج لمساندة الشعب أملا في حدوث إصلاحات تنقذ البلاد مما كانت فيه، بدلا من أن نغرق جميعا في تلك المنظومة التي كانت تتغذى على أعمدة الدولة ما يعني انهيارها في أي وقت.
بينما يسرق منا تلك الابتسامة والنور الذي تسلل إلى قلوبنا، الواقع المر الذي أصبحنا نعيشه اليوم بعد أن اندلعت الحرب في البلاد عقب تدخل التحالف العربي في الربع الأول من العام 2015، التي تحول فيها مسار كثير من المجريات في اليمن، بينها تلك الانتفاضة التي انتقم منها النظام السابق باستخدامه بطريقة سيئة للأوراق التي كان يحتفظ فيها للنيل من الذين خرجوا ضده أو دعموا ذلك، إضافة إلى وجود فاعلين آخرين حاولوا إجهاض الثورة بهذا الشكل الذي وصلنا إليه اليوم وأدخلنا في دوامة من صراعات لا متناهية.
أمام كل هذه التراكمات التي يبعث على اليأس التفكير بها أو طرق بابها وإن كان برفق. أتذكر خروج عشرات الأطباء اليمنيين إلى الشوارع قبل تسع سنوات، للمشاركة في الانتفاضة التي حدثت في فبراير 2011، جنبا الى جنب مع جموع الشعب اليمني التواق دوما للحرية والإصلاح والعيش بكرامة كباقي شعوب العالم.
تحولت فجأة أرصفة الشوارع إلى بيوت لكل يمني أصبح يشعر بالغربة وهو داخل موطنه، فنصب الأطباء فيها خيامهم كما فعلت باقي فئات العمال، وشاركوا هموم الشعب، وخرجوا مجردين من أي سلاح ويحلمون فقط بتحسين أوضاعهم وانتزاع حقوقهم.
لكن ذلك الوضع لم يرُق للنظام الحاكم آنذاك، وشاء إلا أن يحول وطننا الصغير الذي كان في إطار الساحات إلى جحيم، وقوبلت سلمية آلاف اليمنيين بطريقة بشعة قتل وجرح واعتُقل على إثرها العشرات.
في ذلك الحين، لم يتخلَ الأطباء عن دورهم، برغم أنهم كذلك كانوا مستهدفين، فشاركوا في المسيرات، والتخطيط مع بقية الشباب لإنجاح هذه الانتفاضة وتحديد مطالبها، عملوا على صياغة خطط متكاملة لكيفية إسعاف الناس وتثقيفهم في مواجهات الأخطار التي يمكن أن يتعرضوا لها كالقذائف ومسيلات الدموع والغازات التي تم استخدامها لتفريق المسيرات آنذاك.
نصبوا خيامهم لتكون مستشفيات ميدانية، وعملوا كذلك جداول مناوبات حيث كان المستشفى الميداني على أهبة الاستعداد لاستقبال الجرحى طوال اليوم.
ناضل الجميع رغبة في نيل حقوقهم المهدورة في بلد غني كاليمن، تنهشه الذئاب في الداخل من كل اتجاه، ويتآمر عليه أعداء آخرين يسيل لعابهم عليه من الخارج، فحمل الطبيب كغيره من أبناء الشعب هم الوطن الذي يحلم الجميع بأن يكون "وطنا" فعليا لكل اليمنيين.
كان الأطباء هدفا لقوات النظام آنذاك، وتعرض البعض منهم للاعتقال وحتى القتل أو الإصابة، ومع ذلك لم يثنهم ذلك عن دورهم، وساندوا الشعب، وحين بدأت الحرب بعد تدخل التحالف العربي في مارس 2015، أرادوا أن يواجهوا المصير ذاته إلى جانب المواطن، فالحرب بالنسبة لكثير من الذين خرجوا أملا في حدوث إصلاحات هي تكملة للانتفاضة.
اندلعت الحرب، وتغيرت نفوس كثير من الناس بسبب الاستقطابات التي حصلت والصراعات الكثيرة والهويات الفرعية التي برزت وتم تغذيتها، إلا أن الطبيب لم يتغير، وتعامل مع الجرحى كمرضى بغض النظر عن من يكونون ومع أي طرف، فبالأول والأخير الطب مهنة إنسانية لا علاقة لها بكل ما يحدث، وظل الأطباء على قلب رجل واحد لا يفرقهم شيئا، ولم يخونوا الوطن حين خانه الكثيرين.
ما إن أوشكنا على تطبيب جرحى انتفاضة فبراير واستكمال ما تبقى من جرحى المسيرات، حتى اندلعت الحرب التي أتت على كل شيء، ولم تُبقي شيئا، فمثلما حصدت أرواح شباب هذا البلد وحتى الأطفال والنساء وكبار السن، أخذت تسحب أرواحنا منا بوحشية فتضاعفت سنوات عمرنا سريعا، وفاجأتنا بجرح أعمق وإصابات أكثر وحشية، وكالعادة كان الطبيب أول الحاضرين وأشجعهم ومد يد العون لكل المرضى.
صمد الطبيب اليمني في وجه كل ذلك، برغم تنكر الكثيرين له متناسين دوره الذي قام به ولا يزال إلى اليوم في ظل الحرب، وبرغم تعرضه للقتل والتهديد، والإغراءات المختلفة من الخارج من خلال فرص عمل جيدة كثيرة، وأبى إلا أن يبقى إلى جانب هذا الشعب برغم أنه لم يستلم حتى راتبه البسيط لأشهر عديدة، مع شحة الامكانيات، ونال الطبيب نصيبه من تراجع قيم المجتمع في ظل الحرب وغياب الدولة، وتفشي الفوضى، وأصبح الطبيب عرضة لكثير من المخاطر، وعرضة للاستغلال والابتزاز من قِبل بعض المرضى أو مرافقيهم، متناسين أن الطبيب لم يخرج من عباءة الشعب وفي أي منطقة من مناطق اليمن الغالي وتحت سيطرة أي طرف ولم يكن مجبرا على ذلك، فكانت فئة الأطباء والعاملين بالقطاع الصحي أكثر الفئات صمودا وفعالية وحبا ووفاء لوطنهم وللشعب.
نحن اليوم نكمل عامنا الخامس في اليمن في ظل حرب دامية, أصبحت الأوضاع أكثر رداءة، وبدأ كثير من الأطباء مهاجرين ويرغب من بقي منهم في الهجرة إلى خارج البلد، خاصة مع تلاشي الأمل بالعيش الكريم في بلد مستقر وآمن، وبروز معالم دولتين منفصلتين في الهوية على أرض الواقع وإن لم يكن ذلك قد تحقق رسميا، أدى كل ذلك لشعور الطبيب بالإحباط واليأس من كل شيء، والتفكير جديا بالهجرة، برغم الخطر الذي يعنيه ذلك على مستقبل البلاد التي يعيش مواطنيها في ظل وضع صحي صعب جراء تردي الأوضاع الاقتصادية واستمرار الحرب في قتل اليمنين إضافة إلى تأثير ذلك على اقتصاد البلاد فالكثير من الجرحى يضطرون للسفر إلى الخارج مع هجرة الأطباء وذلك يكلف أموالا طائلة وعملة صعبة نحن في أمس الحاجة لها.
والمحزن في الأمر، هو عدم إدراك القائمين على البلد ماذا تعني هجرة أطباء ذوي كفاءات ومهارات عالية تتسابق على استيعابها كثير من الدول، وعدم تقدير المسؤولين في هذا البلد للأطباء الصامدين حتى الآن لمداوة جرحى الحرب والعمل في ظروف صعبة كهذه، ربما سيستفيق مسوؤلينا، لكن بعد فوات الأوان، حينها سيشعرون بحجم الكارثة ومعنى آثار الحرب التي لا تقتصر على الأشياء المادية بل على أهم طاقة مستقبلية وحالية في البلد ممثلة بالشباب الذين قتل وجرح منهم الآلاف حتى اليوم.