عندما يحمل الثوار هدفاً وطنياً واحداً ويؤمنون بصحته تذوب الفوارق التراتيبية بينهم كقادة ومقودين، ورؤساء ومرؤوسين، لأن الهدف ذَوَبَ أرواحهم وجهودهم في بعضها، غاب على إثرها حب التميُز والتسلط وفرد أجنحة غرور المسؤولية والنفوذ، تفانياً وعشقاً لخدمة الوطن وتحقيق الهدف النبيل، تلك روافع النجاحات الثورية وأسباب النصر في أي عملٍ لشعبٍ يسعى إلى إنقاذ نفسه من ظلم حاكم أو تحرير نفسه من نير الاستعمار. ولا يمكن المضي قُدُماً في تحقيق الهدف إذا كان ثمة نوايا مستبطنة لدى القيادات السياسية أو العسكرية أثناء الحرب تسرح وتمرح بعيداً عن ساحة المعركة وتصب في خانة مصالح شخصية لزيدٍ أو عمرٍ من الناس. شهدت اليمن أحداثاً عظام في ستينات القرن الماضي كانت عبارة عن محطات تحول تاريخية تماها وأخلص فيها ثوارها لثوراتهم الإنسانية، في زمن التحولات العالمية في أوساط الدول الكبرى والصغرى الغنية منها أو الفقيرة، حيث كانت الصراع يعصف بها صراعات كانت اليمن جزءً منها وضمن ساحات صراعها، فكانت ساحةً طيعة تواجد الكثير منها وفيها، حتى أصبحت جزء من الصراع العالمي على المصالح والنفوذ. الأمر الذي قد لا يُدركه الكثير بأن اليمن تأثرت سلباً وإيجاباً بظروف تلك المرحلة، مرحلة الحرب الباردة بين قوى العالم الكبرى حينها، بزعامة أمريكا التي كانت تدعم القوى الإمامية، والاتحاد السوفيتي الذي كان يدعم القوى التحررية في العالم منها اليمن. كما كانت جزءً من الصراع الإقليمي الدائر بين القوى الجمهورية قوى التحرر الوطني والانساني بزعامة الزعيم الراحل جمال عبدالناصر المدعومة من المعسكر الشرقي، وبين قوى الأنظمة الملكية النظم الفردية بزعامة السعودية وإيران الشاه محمد رضا بهلوي، المدعومة حينها من المعسكر الغربي، قَدَرْ اليمنيون الصعب هو أن الحرب الدائرة اليوم على ارضهم باتت عبارة عن امتداد سيء لصراع تلك القوى، مع تبدل اللاعبين واختلاف أدوارهم، واتكال بعض القوى الغربية على وكلاء لهم من نفس الإقليم والمنطقة دون التورط مباشرة في جحيم الحرب في اليمن أو غيرها انتصاراً هزيمةً أو خسارة. الأمر المحزن أنه لا زال في اليمن أوعية اجتماعية فارغة لم تملأها أناشيد الثورة اليمنية ونشيدها الوطني وسلامها الجمهوري طيلة سنين الثورة، والإيمان بضرورة كيان الدولة ونظامها الديموقراطي العادل بين مواطنيها مما جعلها صيداً ثميناً وأوعيةً سهلة لنفس القوى الخارجية والإقليمية تتفنن في ملْ فراغاتها الفكرية والوطنية بما تريد وبأثمان بخسة، تاريخاً من الرخص والعمالة أوقعتهم فيه، لن تنساه عقول الأجيال القادمة ولن يُمحا من الذواكر الالكترونية الحديثة التي باتت تحفظ كل الأحداث وبأدق تفاصيلها. فهلَّا أفاقَ اليمنيون واستوعبوا الدروس وأيقظتهم جراحات الأمس التي لا زالت فاغرةً فاها وجراحات اليوم التي لا زالت دماها تُراق وتنزف في كل مكان، كونهم تعرضوا في حربهم الأخيرة لأسوء الحروب اليمنية على الإطلاق في تاريخهم المعاصر، لأنها لم تترك بيتاً إلا وأصابه الأنين جراحاً أو نواحاً على موت شقيقٍ أو ولد، ولأنها أصابت النسيج الاجتماعي بمقتل وأسست لمحطات توليد الكُرهْ والحقد بين أبناء الوطن والذي لن ينتهي عن قريب. أصيب الغرب كله بما أصيبت به اليمن غير أنه تجاوز محنَهُ وآلامه بعد صدمات اقتصادية وإنسانية جسيمة نتجت عن مآسي الحروب الموجعة، حرب الثلاثين عاماً بين دول أوروبا والتي استمرت من عام 1818 إلى عام 1848م وكذلك الحرب العالمية الأولى والتي لم تخرج عن حدود أوروبا، والحرب العالمية الثانية التي عبرت ذلك العالم إلى عوالم آسيا وأفريقيا وحتى أمريكا التي أصبحت بعدها قوة عظمى، غير أنهم انتصروا برغم هزائمهم على أنفسهم وأعدائهم بالعلم والوعي والثقافة والنزوع إلى الحرب الاقتصادية بدلاً من العسكرية وأصبحت الحرب شيئاً ممقوتاً لدى الجميع شعوباً وحكومات. وفي الوقت الذي كانوا فيه يصنعون الأسلحة للاحتراب فيما بينهم، أصبحوا اليوم يصنعون الحروب في بلداننا كي يبيعوا لنا أسلحتهم وبالأثمان التي يحددوها هم وليس نحن فهلا اعتبرنا؟ وهل وصلت الرسالة إلى مسحقيها؟.