تفصل ما بين تاريخي 21 سبتمبر/ أيلول و26 سبتمبر/ أيلول خمسة أيام كانت تمر عابرة حتى عام 2014، غير أنه عندما سقطت العاصمة صنعاء بيد الحوثيين، صار فارق رمزي وجوهري بين التاريخين، لا ينفكّ يلح في أذهان كل اليمنيين، ويشغل بالهم مقارناً بين ما حدث في 26 سبتمبر/ أيلول عام 1962، أي قبل 63 عاماً في ثورةٍ ضد نظام حكم الإمامة، وهو نظامٌ ملكي غير عادي يستند على الدين، يكاد افتراض تطويره وإصلاحه يكون مستحيلا. بمرور 58 عاماً تأتي جماعة، تستند على نظام تأخر اليمن كثيراً في التخلص منه، في لحظة تصور فيها اليمنيون أنهم صنعوا لحظة فارقة ومؤسسة لقطيعة تامة مع الماضي، وتأسيس مرحلة جديدة لمستقبلهم. كانت 58 عاماً فترة كافية لتأسيس نظامهم الجديد بدون أن يسقط مجدداً، فالإمامة نظام حكم ومفاهيم اجتماعية وسياسية كانت منظومة بالية منذ وقت طويل، ولا تلبّي أبسط المتطلبات الاقتصادية والسياسية، ولم يكن عجيباً سقوطها، بل تأخره وتعثره، ما قد يفسّر هشاشة ما تم إنجازه. لم يتصالح اليمن مع ماضيه ولم يستفد منه، وهو عملياً لم يغادره. هذا أمر له علاقة بنظرة "لم يتصالح اليمن مع ماضيه ولم يستفد منه، وهو عملياً لم يغادره" اليمنيين إلى التاريخ، حيث ينظر إلى الأحداث التاريخية، كل واحد بمعزل عما سبقه أو لحقه، بل وبمعزل عن بيئة الحدث نفسه، فما جرى في 1962 كان محكوماً بسياقه الإقليمي، ونتاج تدافع الصراعات الداخلية، سواء من داخل السلطة أو من المجتمع، إضافة إلى خروج نخبة من السياسيين والمثقفين والعسكريين إلى خارج اليمن أو إلى عدن، وتأثرهم بما رأوه من تأخر استثنائي لبلدهم. لا يمكن حصر أسباب أي حدث بالعوامل الخارجية، فمؤيّدو الإمامة تستهويهم المبالغة بالدور المصري في ثورة 1962، ومؤيدو الرئيس السابق، علي عبدالله صالح، يعجبهم افتراض ما جرى في 2011 تأثراً فقط بموجة قادمةٍ من الخارج. ويميل معارضو الحوثي إلى تصويرهم مليشيا إيرانية وتضخيم الدور الإيراني، بينما لا يرى الحوثيون في أعدائهم سوى التحالف وجماعة مدفوعين منه، متجاهلين حجم الصدع الداخلي الذي تسببوا به. هذه ليست الحيلة الوحيدة التي يلجأ إليها المتعصب لإعفاء المسؤولية الذاتية، بل أيضاً التعامل مع الحدث التاريخي، منزوعاً عما سبقه ولحقه، فالحوثي لا يربط بين "21 سبتمبر" في 2014 وما لحقها من فاقة وحرب، متعامياً عن حقيقة أن الوصول إلى السلطة بالعنف كان من الطبيعي أن يثير كل هذا الدمار. كذلك لا يربط متعصبون كثيرون لثورة فبراير في 2011 بين الحدث وما لحقه من فوضى ثم حرب، بسبب غياب أي رؤية سياسية لمرحلة ما بعد صالح، وتجيير كل هذا الحراك الشعبي لصراع على السلطة بين الرئيس السابق وشركائه السابقين. كذلك الحال مع أنصار صالح الذين يفترضون أن الكوارث مجرد متتالية لثورة 2011، وليست نتاجاً لحكمه 33 عاماً بشكل فردي فاسد، فلكل حدثٍ مقدّماته ونتائجه. وعلى الرغم من بداهة الفكرة، إلا أنها لا تبدو كذلك، في حال نظرتنا إلى أي حدث تاريخي. لذا نظل أسرى تفسيرات تشخصن المسائل، أو تتعامل مع الأحداث بوصفها طفرة بلا تفسير واضح. إذا كان نظام الإمامة مفهوماً في القرون الوسطى، فإن عودة جماعة تستند عليه وتعتبره مرجعيتها في وقت يفترض أننا دخلنا في طور تحديث الدولة، لهي أمر مثير للتساؤل: كيف ما زالت هذه الجماعة قادرة على استثارة العصبية التي أوجدت لها أنصاراً وكيف نجحت في البقاء والتوسع ثم الحكم، بينما أخفقت الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني بكل ما كانت تمتلكه من إمكانات إعلامية وحضور سياسي واعتراف دولي. ما جرى في 21 سبتمبر، سقوط العاصمة صنعاء، بسهولة وبدون مقاومة، بيد مليشيا الحوثيين، كان لحظة فارقة وكاشفة أيضاً لمدى هشاشة الدولة اليمنية ومؤسّساتها التي تآكلت بفعل الفساد، خصوصاً مؤسسات القضاء والأمن والجيش، وكيف أصبحت الدولة ضعيفة بسبب ارتباطها بشخص الرئيس، سيما الجيش، بل وكيف كانت الحياة السياسية، وفيها قيادات المعارضة وأحزابها، تدور حوله. بعد عام 2011، انكشف انعدام الخيال السياسي للمعارضة اليمنية، وأصبحت النخبة السياسية تضبط إيقاعها وحركتها بالمبعوث الأممي، معولة كلياً على التدخل الخارجي، حتى جاءت جماعة الحوثي لتجتثّها بسهولة مذهلة، وهي جماعةٌ جاءت من منطقةٍ يمنيةٍ معزولة، وكانت ارتباطاتها الإقليمية آنذاك محدودة، لكنها كانت تعتمد على قوىً اجتماعية محلية وراسخة (القبائل)، بعكس الأحزاب التي انفصلت قيادتها عن قواعدها، وليس فقط عن المجتمع، وكذلك منظمات المجتمع المدني، المرتبطة كلياً بأولويات المانحين وشروطهم. ما زالت هذه الهشاشة قائمة، ليس فقط بحكومة المنفى التي فقدت آخر أماكن وجودها الهزيل داخل اليمن، بل أيضاً بهشاشة حكم الحوثيين وسيطرتهم، حيث اتسعت دائرة الفقر والحاجة في عهدهم، ولم يعد تبريرهم لها بالحرب والحصار مقنعاً لأحد، وهم يرون العاملين لديهم ينعمون بثروةٍ تستدعي التساؤل بشأن مصادرها وحجمها وسرعة تضخمها. الجماعة الحوثية التي جاءت رافعة شعارات ثورية طوباوية انتقلت سريعاً من مرحلة الحماس "سقوط العاصمة صنعاء، بسهولة وبدون مقاومة، بيد مليشيا الحوثيين، كان لحظة فارقة وكاشفة"الثوري إلى مرحلة الفساد السلطوي، وهو فسادٌ يختلف عن سابقه، من حيث قلة عدد المنتفعين به، ففي العهود السابقة كان الفساد شبكةً ضخمةً تعمل ضمن مؤسسات الدولة، وتنتفع منه شريحة واسعة نسبياً. أما الآن، فالفساد يمارسه الحوثيون ضمن أشخاصهم بدون مؤسسات، وهم من صاروا يعرفون بالمشرفين، بالتالي صار حجم المنتفعين محدوداً جداً، إضافة إلى جشع الفساد الحالي، بسبب غياب أي شكل من الضبط القانوني المؤسسي، أو الرقابة الإعلامية والمجتمعية، ما أدى إلى زيادة شريحة الفقراء، ووسع بشكل كبير الفارق بين الأثرياء والفقراء في اليمن. أيضاً قوّض الحوثيون سلطة القبائل والأحزاب والمجالس المحلية، وغيرها من سلطات وجهات وسيطة بين المجتمع والدولة، ما وسّع الفجوة بين السلطة والمجتمع، خصوصاً مع الغياب الكلي للإعلام، حتى باعتباره أداة تنفيس. وهذا يؤكد أيضاً حالة هشاشة سلطة الحوثي، القائمة على العنف والقمع وحدهما، إضافة إلى الغطاء الذي توفره لها حرب التحالف في اليمن. دخل اليمن، منذ 26 سبتمبر/ أيلول 1962 طوراً جديداً من الحكم الذي كان متوقعا أن يؤسس دولة حديثة، ولكن فردية الحكم، وفساده بطبيعة الحال، أضعفا كلياً محاولات تشكيل دولة تقوم على مؤسساتٍ وليس أفراداً، وجعل ضعف التنمية خارج العاصمة كل ملامح الحداثة والحراك السياسي والثقافي مجرّد قشرة خفيفة لمجتمعٍ غارق في الفقر والجهل. وهكذا اجتاح العاصمة صبيةٌ لم يروا من قبل إشارات مرور، وأصابهم الذهول من رؤية الكهرباء وحركة المدينة بعد غروب الشمس. سقطت الدولة الهشّة بسهولةٍ تليق بها، لتنتقل معالمها، بعد 21 سبتمبر/ أيلول 2014، إلى سلطات حاكمة ومختلفة على أجزاء اليمن، وكلها مرتبطة بوضع إقليمي معين، وليس على شرعية داخلية وحدّ أدنى من القبول المجتمعي.
*نقلا عن العربي الجديد