كنت مقتنعا بالرواية الحوثية التي تقول إنهم استهدفوا معسكر الجلاء في عدن. تحمس الإعلام السعودي للرواية، وغرد الإعلام الإماراتي والقطري بعيدا.
أحاديث القادة العسكريين والسياسيين "الجنوبيين" تتحدث عن فاعل مجهول. الإشارة إلى الفاعل المجهول جاءت في بيان رسمي للانتقالي.
الحوثيون أنفسهم تناقضت تصريحاتهم، تارة يقولون طائرة مسيرة، ومرة يتحدثون عن صاروخ قصير المدى، وأحيانا عن صاروخ بعيد المدى، وأكثر من مرة قالوا إنها طائرة وصاروخ.
ولأول مرة منذ الحرب تحدث الحوثيون عن عدو مشترك وقالوا لوسائل الإعلام إنهم كانوا يلبون رغبة هادي والإصلاح
في المحصلة: قتل انفحار غامض أبو اليمامة، ولم يقتل شخصا آخر من المتواجدين عن المنصة، بمن فيهم أبو دقن الذي كان يجلس جواره ويحدثه كما في التسجيلات.
نزل القائد من على المنصة أثناء العرض وراح بعيدا ليرد على مكالمة، ثم حدث انفجار.
هذا السيناريو هو ما جعل القادة الانتقاليين يرفضون الرواية الحوثية. فهو يقول إن القاتل لم يرغب بالمساس بأي من المتواجدين على المنصة، وأنه أراد أبو اليمامة بعينه لا أكثر.
طبعا في الهيصة اللعينة بمقدورك الإشارة إلى أكثر من جهة. الانتقالي فضل استغلال الحادثة بصورة مختلفة: إثارة انفعالات جماهيرية غاضبة من خلال القول إن القوات المدافعة عن الجنوب تتعرض لهجوم شمالي.
بهذا اللوغو حدثت الفوضى الأخيرة، وهي ما كان الانتقالي بحاجة إليه بالنظر إلى افتقاره الدائم إلى المشروعية السياسية. مثل هذه الهيصات تعيد تأكيده بحسبانه الجنوب ومشروع الاستقلال. لا بد وأن يبقى الفاعل غامضا، وأن يكون منتشرا وكبيرا ويصعب تعيينه لضخامته. صورة القاتل على هذا النحو تدفع الناس إلى الاختباء وراء الانتقالي ومنحه تفويضا جديدا.
في 4 مارس 2016 قام فاعلون مجهولون بقتل 16عامل بدار المسنين في عدن. في الساعات الأولى قرأنا بيانا قيل إنه صادر عن أنصار الشريعة يتبنى الحادثة. لكن التنظيم سرعان ما نشر بيانا قال فيه: هذه ليست أفعالنا، وهذا ليس قتالنا.
بهذا التكثيف شطب التنظيم كل السيناريو المتداول. وبقيت القضية مقيدة ضد مجهول. وكان واضحا أن ذلك المجهول ليس جهاديا، وأن الحوادث الجهادية تفيده ولا تخيفه. آنذاك سرى انطباع عام عن قوى ذات بأس في طريقها لاختطاف المدينة. وهي حيلة درج عليها على نظام صالح على مر السنين، حتى إنه في 2006 قام بعمليتين انتحاريتين قبل الاقتراع الرئاسي بساعات قليلة.
الروايتان الانتقالية والحوثية عن حادث الجلاء لا علاقة لهما بالحادث. ثمة رواية ثالثة يتداولها الحوثيون في صنعاء. تقول الرواية:
كان قد تقرر عقد حفل تخرج دفعة الصاعقه في اللواء الاول دعم وإسناد بقيادة أبو اليمامه. تم تحديد موعد الاحتفال وهو يوم الخميس الماضي .
وقبل هذا بعشرة أيام تقريبا قامت قوة من اللواء التابع لأبو اليمامه باعتراض بعض المدرعات والأطقم التابعه لحراس الجمهوريه بقيادة طارق صالح في بير أحمد. استولت قوة أبو اليمامة على الأطقم والمدرعات واعتدت على الجنود التابعين لحراس الجمهورية. سبق لأبو اليمامة أن قام بتوقيف عديد من الضباط والجنود التابعين لحراس الجمهورية، وأفرج عنهم بضغوظ من دول التحالف ممثلة بالإمارات. يعتبر أبو اليمامة من المعارضين معسكرات طارق في الجنوب ووقعت بينهما أكثر من مواجهة. وعندما علم طارق بموعد الاحتفال أبلغ الحوثيين بالموعد والمكان والزمان والحضور عبر طرف ثالث وكان من المقرر حضور الحفل من قبل هاني بن بريك وأبو محمد مسؤول التحالف الإماراتي في عدن. أبلغ طارق بن بريك وأيضا المسؤول الإماراتي بأن لديه معلومات
عن عمليات تتبع القاعدة وستستهدف معسكرات وأجهزه أمنيه ونصحهم بعدم الخروج يوم الاحتفال.
طبعا هذا السيناريو الذي يتداوله الحوثيون مليء بالتشويق أكثر من أي شيء آخر. وبالرغم من أنه يبدو عصيا على التصديق إلا أن اتهام صحفيين مقربين من طارق للشرعية، وصدور بيان من تنظيم القاعدة (كما قرأته) ينفي مسؤليته عن تفجيرات الشيخ يجعل هذا السيناريو المشوق أقل تشويقا. من خلال هذه القصة نجح الحوثيون في إثارة الجنوبيين أكثر.
كل هذه السيناريوهات تروي غير الحكاية. فالقصة الحقيقية هي أن عدن، العاصمة المؤقتة، ليست بخير. وأن أرتال السلاح والمسلحين لا تجلب الأمن. المؤسساتية التابعة لسلطة مركزية وحكم القانون هما ما يجلبان الأمن ويخلقان الوظائف. هذا البلد ليس بحاجة إلى أبطال ولا قادة، هو بحاجة إلى مديرين جيدا وإلى استثمارات تخلق الوظائف، وإلى حكم القانون. إن مقتل "البطل"ليس الجزء المهم في الحادث، بل السياقات التي قتل فيها. لا تبحث عن عطل في السيارة التي سقطت من المنحدر. اصنع طريقا جيدة كي لا تهوي سيارات أخرى.
*من حائط الكاتب على موقع فيسبوك.