هذا البلد المُبتلى بالحرب والفقر والغموض، يثير دوماً كّماً من الأسئلة، أكثر بكثير مما يمكن الإفصاح عنه، ففي كل يوم تنقل الشاشات والوكالات الى عيوننا وأسماعنا ما يضني القلب، ويطرح التساؤل المرّ، ما الذي يجري ومن الفاعل ؟
وتخضع الإجابة دوماً لمصلحة المجيب، سواء الاقتصادية او الاستراتيجية او المذهبية، كلٍّ يتحدث عن حقيقة تخدم مصالحه وغاياته تلك.
ولكن مشاهدة الاطفال بأجسادهم الهزيلة، تخُرج كل الاجابات من دائرة التصديق، من المسؤول؟هل هو التحالف، ام المجتمع الدولي، ام مليشيا الحوثي وإيران؟ وكما جرت العادة ان تُلحق المسؤولية عن الامر بالتحالف العربي، ولكن ما صحة ذلك ؟
بقي هذا التساؤل حائراً الى ان قادتني الصدف للقاء مع المخرجة الاردنية نسرين الصبيحي مخرجة فيلم (وما جاء الفجر) الذي يتحدث عن معاناة أطفال اليمن جّراء الحرب المجنونة، والتي عادت للتو من اليمن بعد ان أغراها نجاح التجربة الاولى، بإخراج فيلم جديد يتحدث عن المعاناة الانسانية في (اسلم).أمطرتها بسيل من الأسئلة علّي اشفي ما يجول في خاطري من التساؤل، وتنقلت من طريقة وصولها الشاقة والتي تطلبت ايام عديدة، ابتدأت من عمان أوصلتها الى عدن، ومن هناك براً الى صنعاء، وهي بحد ذاتها مغامرةً أمنية في اتجاهين: الاول فيها توفير الامن الشخصي لعبور الطريق وهذا كان ممكناً شراءه، اما الاخر فكانت المعاناة من صعوبة الطريق والتي تعرضت للإهمال طوال سنين الحرب بحيث اصبح السير فيها حرباً مضنية لأجل السلامة.
في النهاية وصلت صنعاء، بادرت بالسؤال كيف هو الحال هناك؟ الامن، معيشة الناس، التعليم، العمل، المساعدات الانسانية، وكل تلك، فكانت الاجابات الصادمة؟، فالأمن الذي تبدو عليه المدينة ماهو الا حالة وهمية نجمت عن الخوف القابع في نفوس سكانها، سواء على حياتهم او على مصادر رزقهم الشحيحة، بالإضافة للاعتقالات التعسفية التي اصبحت سلوكاً ممنهجاً لديهم، فقوة السلاح واحتكاره بيد المليشيات، والتي تمارس عمليات السطو والقتل بدون حسيب او رقيب.
وبالنسبة للوظائف العامة وما كانت الإجابة سهلة بقدر خبث السؤال، في اليمن اخراج الناس الى الشارع اسهل بكثير من إخراجهم منه، فهنالك وسائل عديدة يمكن من خلالها جعلهم يتوجهون بحماس للانطلاق بمظاهرات حاشدة، (تتراوح بين قوة السلاح والإغراءات المالية، واستخدام العقائد والأيديولوجيات الحماسية)، الأمر الذي لا يجعل الخروج الى الشارع مقياساً حقيقياً وصادقاً يعبر عن الموافقة لأفعال المليشيات، وأثناء الحديث حضرت الى ذاكرتي المسيرات الحاشدة التي كانت تخرج تأييداً للرئيس السابق المرحوم على عبداالله صالح، والتي لم تسعفه حين جد الجد في الوقوف الى جانبه والدفاع عنه .
لم أصل إلى حالة من اليقين بما اسمع ولكني استمريت في الاستفسار عن العديد من الأسئلة العالقة في مخيلتي، ما هذه المشاهد لتردي الوضع الصحي، والإنساني، أين المستشفيات؟ وأين المنظمات الدولية والمساعدات ؟، صُعقت حين سماعي انها في جلّها مخصصة للإصابات الناتجة عن الحرب، طبعاً عدا عن النقص المزمن في المعدات والأدوية، لكن أين تذهب المساعدات الدولية من أغذية وأدوية ؟ فالإجابة صدمة بلا حدود، فمحدثتي شاهدت وصورت تلك المساعدات تباع في السوق السوداء.
وحين سؤلها للدكتور شرين ڤاركي ( نائب رئيس منظمة اليونيسف في اليمن) عن هذا التواطؤ مع مليشيا الحوثي، وغياب معايير عادلة لتوزيع المساعدات، فإجابها بالحرف الواحد اذا اردنا الالتزام بالمعايير والتصريح بما يجري حقيقتاً على الارض، فسوف نغلق مكاتبنا في اليوم التالي، طبعاًهذه الإجابة كانت بعد طلبه إغلاق جميع ادوات التسجيل، فالإجابة امام الكاميرات والتسجيل راوحت فيما هو معتاد من الاجابات، اطبق الصمت من هول الإجابة الصاعقة، والتي القت بظلال قاتمة من الشك حول كل ما تقوله وتفعله المنظمات الدولية في اليمن.
وفي غمرة الصدمة داهمني السؤال عن حقيقة ما يجري في اسلم فبعد أن تملكني الشك عن كل ما روج عن اليمن اردت ان اقف على حقيقة ما يجري هناك، فلماذا هذه الحال التي هم فيها ؟ هل هي بسبب حصار التحالف كما يقال؟ ام انه وراء الظاهر اسرار تخبئ نفسها أو تُخبأ قصداً؟، بدون شك هي منطقة شديدة الفقر، تُحكم من قبل الحوثيين، لم تصلها نيران الحرب، وفيها مساحات قابلة للزراعة، وليس لما يجري فيها اي علاقة بالحرب، اسُتخدمت حوثياً للتسويق على انها بنتيجةما يسمونه العدوان، وهي اصبحت واحدة من اهم الوسائل الدعائية لإثبات صدق إدعائهم، فمثلما يستطع عناصر الحوثي جلب حزم الحشائش كي يقتات عليها الناس، كان بإمكانهم جلب الطعام واللباس والدواء، فالحالة المزرية والمأساوية هناك هي من صُنع الحوثيين أنفسهم لا احد غيرهم.
اما في تعز فالمأساة التي هناك تتلخص في الهمجية التي زرعت فيها الألغام الارضيّة والتي حصدت ارواح العديد من المدنيين، ففي منطقة مثل الجحملية، والتي جل سكانها من المدنيين، زرع ربما بقدر عدد سكانها الغام، وحينما اندحروا عنها، وعاد السكان اليها أستقبلهم الموت فاتحاً ذراعيه بدون رحمة، طبعاً هذه المأساة لن يكفي الجهد المحلي لمعالجتها بل تحتاج لجهد دولي صادق.
وهناك مأساة اخرى حلت بتعز وهي تمركز الحوثيين في المستشفيات، ما أدى إلى تدميرها في جلها وان تم اصلاح الجزء البسيط منها، ولكنها لا تزال في إطار العاطلة عن العمل، اما بفعل التدمير او الألغام المزروعة فيها، وكذا الامر ينطبق على المدارس التي إما دُمرت او زرعت بالألغام.
ولا تزال تعز محاصرة من جهتين، حيث لا يزال الحوثي يتمركز في منطقة في أطراف تعز تسمى الحوبان تنتظر ان تتحرر منهم.
وفي مدينة ربما يشكل سكانها ثلث سكان اليمن وتمر بهذه المِحنة الانسانية، تغيب عنها تماماً جميع المنظمات الدولية لتقديم اي شكل للمساعدة، طبعاً ذلك بسبب الادعاء بوجود الألغام الارضيّة، ولكن ما أرهقني هو السؤال عن سبب تواجد هذه المنظمات وبأعداد كثيفة في المنطقة التي يسيطر عليها الحوثيين اعني الحوبان، فهل لهذا السؤل اجابة ؟.
وفي الرحلة الى صعدة كانت في مواجهة حالة فريدة مع نوع من المدن التي تحصر ذاتها في إطارين اثنين فقط الأول (العسكري) الذي يجمع في إرجائه قيادات ذات شأن، والتي أعدت وفق منطق يعتبر ان الحرب مع المختلف مشروعة في كل زمان ومكان، فالآخر المختلف اما عدواً او مشروع قتيل لذلك تأخذ الآلة العسكرية اهميةً دينية تفوق ربما بكثير قمتها الحقيقية، والثاني وهو الأهم (المؤسسة الدينية) والتي تتبني ايديولوجية اصطفائية تقوم على منطق الفرقة الناجية مستندتاً في ذلك لانتمائها لبيت النبي عليه الصلاة والسلام، وهي بذلك تخرج الآخرين اليمنيين من دائرة المساواة، وتنزلهم درجةً تأخذ مفهوم الرعية، وهي بذلك لا تسعى لحكم اليمنيين بموافقتهم، بل تدعو الى ذلك كونها تدعي التفوق على اليمنين نسباً ومكانة.
وفي صعدة يقتصر التعليم للأطفال على أمرين اثنين فقط هما حب آل البيت، وسليلهم السيد عبدالملك الحوثي، وحمل السلاح وحرب الأعداء وقتلهم.
وهناك تعرضت محدثتي لمحاولة الرجم بحجر حاول احدهم إلقاءه عليها، وأخر كان يصيح ما العدوان الا النساء، للدرجة التي صوبت البندقية تجاهها، فلاذت بالفرار الى سيارتها واللجوء الى مرافقيها، وحين قررت للحظة رفعت الخمار عن وجهها تعرضت لوابل من الشتائم والمسبات، فكانت النتيجة ان هذه المنطقة هل معقل لجماعة تقدس تميزها وتعتبره ميزة تتقوقع في داخلها رافضةً اي اخر مهما يكن انتمائه، هنا اشكر المخرجة نسرين على جرأتها وتحديها الصعاب ومجابهة الخطر بكل اشكاله لتصل الى الحقيقة وحدها، ولكني سألتها لكن كيف استطعتي ان تصلي الى كل تلك الأماكن رغم خطورتها، كانت الإجابة أنهم قوة الأمر الواقع كما تسميهم هي، والذين كانوا على قناعة انها سوف تكون اداةً لهم لنشر ما يدعون، فكانوا عين كمرتها ولكنها بفطنتها تمكنت من رصد الحقائق ورفضت التنازل عنها.
لأعد الآن إلى طرح الأسئلة الخانقة التي تولدت لدي من ذلك الكم من المعلومات، والتي نستمع في كل يوم الى ما هو عكسها تماماً، للدرجة التي جعلتنا نعتقد ان هؤلاء الناس ما هم الا حمامات سلام، فما الغاية التي تجعل المنظمات الدولية ترى مليشيا لا تستند الى اي شرعية تعتقل شعباً بأكمله تحت قوة السلاح؟ فلا أحد يمكنه ان يقنع أياً كان ان هذه الحقائق تخفى عليهم، اذاً هل لنا ان نسأل هل لهذه المنظمات اجندات او غايات تريد تحقيقها غير ما هو معلن لتلك المؤسسات؟ لا املك اجابة، ولكن السؤال برسمهاطالما هذه الحقائق على الارض.
السؤال الثاني لماذا تدعم دولة مثل ايران هذه المنظمات طالما ان هذا سلوكها؟ ما هي غايات ايران من هذا التصرف؟ هل تريد ان توسع قاعدة التمذهب؟ ام هل تريد ان تحارب بهذه المليشيات القوى الصاعدة في الخليج وتعيقها عن ذلك؟ لماذا لا يمتلك المجتمع الدولي الإرادة لردع هذه الدولة عن حشر انفها في صراع بين اشقاء؟ باعتقادي ان ايران تفعل ذلك لأسباب تخصها هي ولا علاقة لها بمصلحة اليمن ولا حتى الحوثيين أنفسهم، وسلوكها هذا سوف يدخل المنطقة في حالة مستدامة من الصراع، وأكاد اخشى ان يكون هذا واحد من أهداف ايران.
اما الاتحاد الأوروبي والذي يتباكى على حقوق الانسان في اليمن، ويدين الجرائم صباح مساء، فموقفه ملتبس بقدر التباس مصالحه بعد خروج الولايات المتحدة من الاتفاق النووي مع ايران، فأكاد المح أوروبا تقدم على حساب مصالح المنطقة العربية، باعتبار اليمن كشهادة حسن سلوك للحفاظ على مصالحه هناك، اعني في ايران وهو يغض الطرف تماماً، عن كل ما يقترفه الحوثيين من جرائم بحق الانسانية، ويقبل مقولة واحدة، أن طائرات التحالف والحصار، هما فقط سبب ما يجري في اليمن، فهل من اجابة حقيقية أوروبية عن غض الطرف هذا، وهل لهذا السلوك المنافق ان يوضع له حد؟
أما المنظمة الدولية، فتكلفة رحلات مندوبيها وممثليها الى اليمن وبدون جدوى تكفي لإطعام العديد من اليمنيين وعلاجهم، وانا هنا أدعو الى فتح تحقيق محايد يتعلق بالموقف الحقيقي للأمم المتحدة وقبولها التعامل مع مليشيا قهرت شعباً، فهل هذا جائز في شرعة الامم المتحدة، ويضاف الى ذلك سلوك المنظمات الانسانية الذي يطرح العديد من التساؤلات وعلامات الاستفهام حول حقيقة ملازمته للمناطق التي يوجد بها الحوثيين، فهل ثمة تعامل وراء الكواليس فيما بين الطرفين؟
وفي النهاية تحدثت عن الجهة التي ملكتُ معلومات وثقت بها ليس الا، ومع ذلك يبقى اليمن حبيس الفقر والسلاح والأيديولوجيات القاتلة (استعيرها من المفكر امين معلوف)، إلى أن تأتي بارقة تنهي الحرب والقتل وتطلق اليمن وشعبه الى الفضاءات المفتوحة.
*نقلا عن صحيفة الرأي الأردنية