عادة ما يثور نزاع في الوسط الفكري والثقافي بين قدسية النص الشرعي (القرآن الكريم أو صحيح السنة المطهرة) وإنسانية التطبيق، ويقع البعض في خلط كبير في ذلك، وربما حدث قدر من التطرّف أو التحكّم في تحميل كلام العالم الشرعي أو المفتي أو المجتهد دلالات بعيدة عن مراد الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، بدعوى أن ذلك مقتضى النصوص، من غير تمييز بين صحيح صريح وظني محتمل. وأيّا ما شاب بعض المواقف من التباس فإن أولى خطوات الفصل في ذلك إدراك أن من الثابت في الأدبيات الإسلامية قديمها وحديثها أن مبدأ التخصص في الإسلام لايستلزم الانزلاق إلى ادّعاء الكهانة على المستوى النظري أو التطبيقي، إذ المفتي -على سبيل المثال- حين يقدّم ما يحسبه حكماً للشرع في هذه المسألة أو تلك فإنه لايقدِّم ذلك في كل مسألة تعرض له بحسبانه حكم الشرع ، بل الأغلب من المسائل يقدِّم فيها رأيه وفق ما يبدو له حكما للشرع لا أنه كذلك يقيناً، أو مراد الشارع قطعاً، أو أنه أصاب نفس الأمر المطلوب بالضرورة، فذلك لايتحقق إلا في المسائل الكلية في العقيدة، أو مايُعرف بالمعلوم من الدين بالضرورة، كوجوب الصلاة والصوم على كل مسلم، وحرمة الخمر والفواحش، أو المتواتر اليقيني، أو ماكان صحيحاً صريحاً خالياً من أي معارضة معتبرة، ونحو ذلك، ومن ثمّ فتلك المسائل المقطوع فيها جزماً بحكم الله متناهية، أو بإجماع يقيني حولها، على نزاع معروف بينهم حول حجية الإجماع( ).
ولذلك نجد أئمة الإسلام المحققين لا يسارعون إلى الجزم بأحكام الحل والحرمة في كل حين، بل يغلب على ردودهم وفتاويهم ترديد مفردات أخرى، من مثل أرى، ويظهر لي، وأحب، وأكره، ولا باس بذلك ونحوها، ومن أمثلة ذلك ما أورده المحقق ابن عبد البرّ عن الربيع بن خثيم (كان من أفضل التابعين) أنه قال: (إياكم أن يقول الرجل لشيء إن الله حرم كذا أو نهى عنه، قال أو يقول: إن الله أحل هذا أو أمر به، فيقول كذبت لم أحله ولم آمر به) ( ) .
ومن مثل مارواه الشافعي عن القاضي أبي يوسف صاحب أبي حنيفة قال: "أدركت مشايخنا من أهل العلم يكرهون الفتيا، أن يقولوا هذا حلال وهذا حرام، إلا ما كان بيّنا في كتاب الله عز وجل بينا بلا تفسير". وعن إبراهيم النخعي (من كبار فقهاء التابعين بالكوفة) أنه حدّث عن أصحابه: أنهم كانوا إذا أفتوا بشيء أو نهو عنه قالوا هذا مكروه وهذا مالا باس به، فإما أن تقول: "هذا حلال وهذا حرام فما أعظم هذا"( ).
وقال ابن قيم الجوزية: "لا يجوز للمفتي أن يشهد على الله ورسوله بأنه أحل كذا أو حرمه أو أوجبه أو كرهه إلا لما يعلم أن الأمر فيه كذلك مما نصّ الله ورسوله على إباحته، أو تحريمه، أو بإباحته، أو كراهته أما ما وجده في كتابه الذي تلقاه عمن قلّده دينه، فليس له أن يشهد على الله ورسوله به ويغرّ الناس بذلك، ولا علم له بحكم الله ورسوله.
قال غير واحد من السلف: ليحذر أحدكم أن يقول: "أحل كذا أو حرم الله كذا، فيقول له: كذبت لم أحل كذا ولم أحرمه"( ) .
وروى ابن القيم كذلك أن شيخه أحمد بن تيمية قال: "حضرت مجلساً فيه القضاة وغيرهم، فجرت حكومة حكم فيها أحدهم بقول زفر (أحد فقهاء الحنفية) فقلت له ما هذه الحكومة؟ فقال : هذا حكم الله فقلت له : صار قول زفر هو حكم الله الذي حكم به وألزم به الأمة ؟ قل هذا حكم زفر ولا تقل هذا حكم الله، أو نحو هذا من الكلام"( ).
وكان مالك بن أنس يقول: "لم يكن من أمر الناس، ولا من مضى من سلفنا الذين يقتدى بهم ولكن يقول أنا أكره كذا وأحب كذا وأما حلال وحرام فهو الافتراء على الله أما سمعت قول الله تعالى: "قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراماً وحلالاً.." (يونس 59) لأن الحلال ما أحله الله ورسوله والحرام ما حرماه" ( ).
وكان مالك يقول في بعض ما كان ينزل به فيسأل عنه فيجتهد فيه: "إن نظن إلا ظناً وما نحن بمستيقنين"( ).
وقد لخَّص ابن القيم هذه المعاني في قوله: "والمقصود أن الله سبحانه حرم القول عليه بلا علم في أسمائه وصفاته، وأفعاله وأحكامه، والمفتي يخبر عن الله عز وجل، وعن دينه ، فإن لم يكن خبره مطابقاً لما شرعه كان قائلاً عليه بلا علم، ولكن إذا اجتهد واستفرغ وسعه في معرفة الحق وأخطأ لم يلحقه الوعيد، وعفي له عما أخطأ به وأثيب على اجتهاده، ولكن لا يجوز أن يقول لما أداه إليه اجتهاده، ولم يظفر فيه بنص عن الله ورسوله، إن الله حرم كذا، وأوجب كذا وأباح كذا وأن هذا هو حكم الله "( ) . والمراد بالنص هنا النص القطعي في وروده ودلالته، وليس مجرد نص صحيح يحمل من الأوجه ما يجعل المختلفين من المجتهدين يتعلق كل واحد منهم بوجه من وجوه دلالته .ثم إن كلام الإمام ابن القيم المتقدم عنه وعن شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره يؤكد هذا المعنى بوضوح.
وعبّر الأصوليون عن هذا الموضوع بقولهم: "لا ينكر المختلف فيه وإنما ينكر المجمع عليه"( ) ،وبقولهم: "الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد"( ) .
ولنا أن نتساءل عن مستند هؤلاء الأئمة والمحققين من العلماء في القديم والحديث هل أطلقوا أحكامهم سالفة الذكر عن مسلك في الفتوى يخصهم ؟ أم عن حب في عدم القطع برأي غير صريح فحسب؟
الحق أنهم قد استندوا إلى آيات بينات من مثل استشهاد مالك بقول الله –تعالى-: "قل أرأيتم ما أنزل الله من رزق فجعلتم منه حراماً وحلالاً.." (يونس 59)، وقوله سبحانه: "أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين مالم يأذن به الله". (الشورى 21) وقوله – جل وعلا – "ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب، هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون" (النحل 116).
ثم إن الرسول- صلى الله عليه وسلم- قد ميّز بين حكم القائد والعالم وبين حكم الله في مثل قوله لقادة الحروب والغزوات: "... وإنك إن حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله، فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على رأيك فإن لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا "( ) .
كما أنكر عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه على الكاتب الذي كان كتب بين يديه كتاباً حكم به عمر ثم قال " هذا ما أراه الله أمير المؤمنين عمر"فقال :" لا تقل هكذا ، ولكن قل هذا ما رأى أمير المؤمنين عمر "( ) .
_________________________
* عذرا سقطت كل الهوامش فنيا هنا مع أن النص مأخوذ ببعض التصرف من كتاب للكاتب بعنوان( حوار في الإسلام والعلمانية : العلمانية في المجتمعات الإسلامية بين الممكن والمستحيل) ( ينتظر النشر).