يقول فرويد :" الجموع خاملة وعديمة الذكاء، ولابد من سيطرة الأقلية لبناء الحضارة"..
لم يكن يخطر في بال "فرويد" وفي أسوأ الظروف أن يقول مثل هذه العبارة، إن قدر له العيش في مدينة عريقة كمدينة صنعاء، وقد اجتاحتها "أقلية لا تملك الكثير من الذكاء"، قادمة من الكهوف لتحكم سيطرتها على تلابيب صنعاء، لم يكن عالم النفس المتمرس يعنيها في سياق جملته البتة..
ترى ما الذي كان سوف يقوله وهو يسير في شوارع المدينة ويرى المباني التي كانت تنبض بالحياة، اختفى جمالها الأخاذ، وأمست كنتوءات بارزة من الصخور، تعلق عليها لافتات قميئة التوزيع مفرغة المعنى والمحتوى، لا تمت للحضارة _أي حضارة _، بأي صفة..
فضل المواطن العادي، أو "الجموع الخاملة" كما يسميها "فرويد،" أن يغمض عينيه ويتجاهل ما يراه على أن يصدق بأن هذا هو الواقع الذي ستبقى عليه مدينته وحياته، واقع الضبابي معكوس كخفاش معلق الرأس، غير من أحواله وأحلامه، لتغدوا كوابيس خانقة..
وهذه هي المشكلة الحقيقية، والسبب الرئيسي الذي يطيل فترة حكم الانقلابيين وحكومة الخفافيش، عدم التصديق والتشبث بأمل واهي بأن ما يعيشه حقاً ليس حياة حقيقية، بل جاثوم سيؤول إلى زوال ذات نهار قريب..
على الرغم من أن الحضارة لا تسير دائماً على نفس النسق، تصعد وتهبط على مر التاريخ، بل إن فترات انكفائها على وجهها هو الأكثر من الناحية الحسابية البحتة، لكن اليمني مازال متشبث بالأمل ولا يريد حتى هذه اللحظة فقدانه، يمضي نهاره يتلقى إهانات وصفعات الحياة تنهال عليه متجاهلاً لها، وهو يحث نفسه للبحث عن لقمة يقتات بها هو وأبناؤه، وأذناه مطرقة لخبر قادم من جبهة ما، مبادرة سلام، صوت عاقل، شرعية أجاد على مر ثلاث سنوات التبرير لها بأعذار واهية..
ربما ما يجعل من بعض الأمل نابضاً، توحد معظم أبناء المدينة حتى مع اختلاف توجهاتهم، على قناعة تترسخ كل يوم بأن هذه الأقلية_ التي بدأ الخوف يتسلل هارباً من عينيها وهي تتلفت حولها_ لا ينبغي لها البقاء على كرسي الحكم، ولا تملك حتى الأهلية لحكم نفسها ومحيطها..
قد يمنح هذا " الجموع الخاملة " بعض من الوقت القليل قبل أن يغادرها الأمل والرجاء بلا رجعة، فقدان الأمل في النفس البشرية يعني النهاية، فحين تتأكد فعلا بان لا فائدة ترجى من الانتظار وأن النهاية اقتربت ستجر قاتلها معها وتحرق الجميع، لن تعود خاملة، ولن تقبل بالموت منفردة، فهذا ما جلبت عليه النفس البشرية، وهي تتحدى "فرويد" وترد عليه : " أن مت ظمآناً فلا نزل القطر"..