مثل شمس حزينة إنطفأتْ في أول النهار، غادر صديقي ورفيقي وأخي وابن بلدتي الشاب المهندس عمار الشعبي الحياة مبكراً الى حياة أكثر شموخاً ونبلاً وكرامة، سافر اليها طويلاً واختارها مثلما يختار الكبار حيواتهم الطويلة التي تليق بهم " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء".
أحاول أن أكتب بصمود يليق بك يا صديقي ، أصارع الإنكسار بقوة مستمداً من قوتك حينما اتصلت بك قبل أسابيع معزياً بإستشهاد شقيقك حمزة في صفوف المقاومة بتعز وهو الشاب الذي لم يصل للعشرين من عمره ،كان صوتك صلباً وقوياً مثل جبال بلادنا التي لا تهتز ولا تنحني فهي من اختارت أين تقف وأين تكون .
من كلية الهندسة بجامعة عدن وبعدد تخرجه بفترة قصيرة انتقل عمار الشعبي الى شعبة الاتصالات بميدي ، كان بإمكانه أن يجد مكاناً آخر وعملاً يدر منه دخلاً وفيراً كمهندس للإتصالات مثلما فعل اصدقاؤه ، لكنه أختار طريقاً آخر ، طريق الكفاح والجراح ، في الوقت الذي عاد آلاف من ضباط الجيش المنحل الى غرف نومهم خرج صديقي الى ميدي قاطعاً أكثر من 700 كم للبحث عن بلاد ودولة.
ما زلت أتذكر صوتك يا صديقي قبل عامين وأنت تخبرني أنك وصلت صحراء ميدي، كنت حينها أرد عليك بإستغراب كيف يمكن لشاب هادئ وابن منطقة خضراء أن ينتقل من مقاعد الدراسة الى رفقة الجيش الوطني وخنادقه ، مع مرور الزمن تغيرت ملامحك بفعل الشمس والعمل في شعبة الاتصالات ولمدة طويلة ظللت صامداً وقويا، لم تنل قسطاً من الراحة في دورة تغييرات مستمرة لضباط وقيادات المنطقة ..لكنك بقيت شامخاً مثل قلعة عتيدة وسط صحراء.
لم يكن مستغرباً عليك يا صديقي هذا الصمود فوالدك العقيد محمد سعيد الشعبي ضابط وطني ومناضل تعرض للتهميش والإقصاء والملاحقة من قبل المليشيا وتعرض لخذلان رفاقه الضباط ومع ذلك ظل وفياً للجمهورية ومبادئها وللشعب ومكتسباته .
حل خبر رحيلك عيلنا مثل صاعقة ، لم أصدق الخبر المجنون ، دخلت البلاد في حداد كبير ، ودخلت المنطقة الخامسة أيضا ، واستوطن الحزن قلوب من عرفك من عدن الى الأفيوش الى تعز الى حجة ، على طول هذه المساحة الكبيرة سُكبت دموع الحزن على رحيلك المر المبكر.
شقيقان رحلا خلال أسابيع وهما في الجبهات ، لم تنته أسرتك من الحزن الأول حتى جاءت فجيعة أخرى ، هي رسالة لاولئك الذين يدفعون بأبناءهم نحو القصور والفنادق ويمنحونهم الوظائف بلا ضمير ، البلاد بلادنا جميعاً والجمهورية تستحق منا جميعاً أن نضحي لأجلها .
ما زلتَ حيا في مكان ما يا صديقي ..بالقرب من بحر زاخر تنام .. يرتاح هناك زملاؤك واصدقاؤك واصدقاؤنا ممن تعبوا من الخذلان والعيش المر ..ما تزالون جميعا أحياء ..سلام عليكم ..سلام عليك .
“ويوماً كَتَبْتُ إليكَ. ويوماً كَتَبْتَ إليّْ
“أُسميكَ نرجسةً حَولَ قلبي”..
وقلبُكَ أرضي وأهلي وشعبي
وقلبُكَ.. قلبي..“
“ويقولونَ.. ماتْ
وأخي ليسَ للموتِ.. عمارنا.. للحياةْ.. “
من "ما من حوار معك بعد الآن" لسميح القاسم