د. عبدالعزيز المقالح
من المؤسف أننا في الوطن العربي لا نزال من الصنف الأول الذي لا يزال جوعه مقصوراً على الرغيف، والبحث عنه يشغل الأغلبية عن أن تكون لها أحلام، أو مطالب خارج هذا المطلب الطبيعي والضروري، وهو بحق؛ العامل الأساس في تخلفنا وفي انصرافنا عن التفكير في الحرية والديمقراطية.
الآخرون ارتفعت أحلامهم بارتقاء أوضاعهم الاجتماعية والسياسية، فلا يتحدثون عن الجوع بمعناه الساحق للإنسان، بل يتحدثون عن جوع آخر إلى مزيد من المعرفة والرفاه، والبعض منهم لا حديث له إلاَّ سؤال كيفية الوصول إلى القمر، وإلى أي نجم آخر من النجوم، التي يقال علمياً إنها صالحة لسكنى البشر، وإن الهواء والمياه متوفران على سطحها، الفارق كبير بيننا وبين هؤلاء «الشابعون». نحن عندما ننظر إلى القمر يذكرنا تدويره بالرغيف في «مساحته»، وهم عندما ينظرون إليه لا يفكرون سوى في طريقة الصعود إليه ومتى.
لقد كان هؤلاء الذين يرتبون لأنفسهم أوضاعاً في النجوم القريبة والبعيدة مثلنا يجوعون ويُعرّون، ويتعرضون للاضطهاد، وكانت القاعدة الذهبية لحكامهم الطغاة، هي القاعدة نفسها لحكامنا الطغاة، وهي الجوع أو بالأحرى التجويع، فقد كان إخضاع الشعوب وتركيعها يستدعي تجويعها وجعلها تنصرف نهائياً عن كل ما لا يتعلق بالرغيف. وهل يكون في مستطاع الجائع أن يفكر في شيء خارج معدته الفارغة، وبعيداً عن ندائها الصارخ؟ والغريب أن هؤلاء الذين كانوا مثلنا في المعاناة، وربما كان حالنا أفضل نسبياً من حالهم، قد اكتشفوا طريقهم إلى الوضع الإنساني الصحيح، في حين وضعتنا عوامل كثيرة داخلية وخارجية في حال لا نحسد عليه، تتهددنا الأوبئة والمجاعات، وتلعب بنا ريح الفوضى، تأخذنا شمالاً حيناً، ويميناً حيناً، فلا نكاد نجد الوقت الكافي لا لكي نتغير، ولا لكي نتأكد من أننا في وضع لا يحتمل ولا يطاق.
كل مفكرينا - من دون استثناء - متفقون على حقيقة واحدة مدلولها يشير إلى أن درجة التطور الحضاري في بلادنا العربية في حالة تجمد، وأن الاختلافات البسيطة في درجة هذا التجمد بين قطر عربي وآخر لا تعطي لقطر ميزة على قطر آخر، فالجميع مشدودون بحبال مرئية، وأخرى غير مرئية إلى واقع يزداد تجميداً. ومن يرى مواكب النازحين والمهاجرين في هذا القطر أو ذاك، يدرك مدى ما تصنعه أيدينا، وما تقترفه في حق أنفسنا من ظلمٍ قاسٍ وقسوةٍ ظالمة، وتجعل -في الوقت ذاته- من المستحيل الخروج من هذا الواقع إلى واقع جديد نغير فيه ما بأنفسنا وما في أوطاننا.
لقد توفرت لنا الوسائل الممكنة للتغيير، وكدنا في وقت من الأوقــات نكتشف طريقنا إلى الإصلاح المطلوب، إلاَّ أن حب الذات والأنــــانية القـــاتلة شـــكّلا أكبر عائق مـــادي ومعنوي حال دون الانطـــلاق، ووضعنا في دائـــرة مغلقة مـــن الصــراعات والخـــلافات الثانوية.
والآن، عود على بدء إلى حديث الجوع والتجويع، وإلى ما تقول الإحصاءات الدولية، إن مليارين من البشر في عالم اليوم يتهددهم الجوع، ومنهم أخوة لنا وأشقاء يعانون وطأة هذا العدو الأول للإنسان، وكيف أن ظروف الاقتتال هنا وهناك في أرضنا العربية قد أفرزت ما يشبه الأغلبية المشردة في أقطار عربية بعينها، ممن يعانون الحرمان والتجويع، ونظراً للظروف الشائكة التي يقعون في أسرها لا تكاد تمتد إليهم يد، لا من الداخل أو الخارج، وهو ما لم يكن متوقعاً، ولم يخطر على بال أحد منهم. إنها المأساة في أشد صورها إيلاماً وسحقاً للمشاعر، وليس بعيداً أن تشكّل مع مآس أخرى صورة لمستقبل هذا الوطن الكبير، الذي تكالب عليه أبناؤه وأعداؤه على حد سواء. وفي زمن تحجّم فيه العقل، وأصبح دوره تالياً لدور غريزة التشفي والانتقام، فمن المستحيل أن يقف هذا العقل في وجه الكوابيس والتصورات المرعبة السوداء.
*الخليج