سام الغباري
- الحياة ظالمة ، تذهب بالأبرياء إلى السجون ، وتُـبقي على القتلة الحقيقيين في فضاءها الواسع ، هكذا تكون ، حين يسيطر الجهلة الحوثيون على كل شيء ، يصيبون أي كائن يتحرك في مواجهتهم ، حيث تسيطر الرغبة في الانتحار على كل الذين يرعبهم الحوثيون في سجون الأمن القومي والسياسي الرهيبة ، ولحسن حظي أني أُختطفت وأُسرت قبل أن يلبي السعوديون نداء الإستغاثة الذي اطلقته مدن اليمن جراء القصف الحوثي العشوائي عليها ، وتدخلها الجوي بطلب الرئيس الشرعي "عبدربه منصور هادي" لتدمير مواقع الإنقلابيين الخبثاء ، وكنت أول صحفي يتعرض للخطف والإخفاء القسري في الأيام الأولى لمشروع الاختطاف الكبير للدولة والجمهورية ودستور البلاد وقانونها .
- لم يستطع الحوثيون الإستمرار في تسويق مبرراتهم لإطالة أمد سجني ، لم يكن أمامهم شيء يهدد غرورهم ويقضي على كبريائهم ، خضعت كل البلاد تقريباً لآلتهم العسكرية التي ورثوها عن صراع طرفي النظام السابق (علي عبدالله صالح ، وعلي محسن) ، حين بالغ الأول في تعزيز قدراتهم بالأسلحة المتنوعة خلال الحروب الست التي قال أنه كان يخوضها ضدهم ، فيما كان هدفه إضعاف مركز الجنرال "محسن" ، وبنهاية الحروب إنطلقت رصاصة "الربيع العربي" ، تحرك الذئاب منفردين لإلتهام فرائس النظام المتهاوي ، قوى المعارضة السياسية وصلت إلى "صعدة" وأقنعت "علي محسن الأحمر" التخلي عن أكثر من 205 دبابة مدرعة وعشرات الآليات الحربية المتطورة ، ومخازن مهولة من الذخائر والأسلحة والقناصات الليلية لصالح الحوثيين الذين اعتبروا أنفسهم قوىً ثورية مشاركة في مطالب إسقاط النظام ، سقطت "صعدة" في ذلك اليوم ، وتعرض الكثير من أنصار الرئيس السابق للتهجير والإقصاء والإختطاف من الحاكمين الجُـدد ، كان الغاضبون في شوارع العاصمة "صنعاء" يحتفلون بذلك ، ويُـعدونه نصراً لقوى الثورة ، وبعد أن تعرض "صالح" لحادثة النهدين وأحترق جسده كاملاً بصواريخ الربيع العربي ، ظهر الحوثيون أمامه لإستثمار غضبه من الإخوان المسلمين ، وقادوا معه تحالفاً أفضى إلى إنقسام الثورة على الأرض ، والخروج بالمبادرة الخليجية التي حصّنت "صالح" ومن معه ، وجاءت بـ "هادي" لتستمر لعبة الحوثيين بإستمالة مختلف الأطراف وإذكاء صراعها ، والحفاظ على تقدمهم ، حتى ابتلعوا كل شيء !.
- ذهب وفد من أفراد قبيلتي إلى مكتب "أنصار الله - الحوثيين" بحي الجراف في العاصمة صنعاء ، وهناك التقوا بيحيى بدر الدين الحوثي الشقيق الأكبر لعبدالملك الحوثي الذي صارحهم أني كنت سبباً في إعاقة مسيرة ثورتهم "القرآنية" في محافظة ذمار !، وأظهر لهم ملفاً متخماً بالمقالات والمنشورات الإليكترونية التي كتبتها في أوقات سابقة ، مشدداً أن "سكوتي" وتوقفي عن الكتابة في الفترة القادمة سيكون بداية جيدة ليفكروا في الإفراج عني ، ومن الطائفة الإسماعيلية التي ينتمي إليها المدعي "هادي القحص" ، تدخل عضو مؤتمر الحوار الوطني "مصطفى خالد اليامي" الذي جاء لزيارتي ثلاث مرات إلى السجن برفقة الشقيق الأصغر لشيخ قبيلتنا "ناجي القوسي" ، في محاولة للصلح القبلي ، لكني رفضت بشدة توقيع أي وثيقة تفويض قبلية يمكنها أن تُـخرجني من السجن كمتهم لم تُـحسم بعد دلائل براءته التي ستظل تُهماً عالقة بأذهان الناس ما لم يكن خروجي منها واضحاً وساطعاً ، وتوالت التدخلات التي كانت تحرص على إنقاذي من سجن الحوثيين ، وتتعمد إخافتي من المثول أمام ساحة القضاء ، فيستمر سجني ويطول بذرائع عدة يمكن لأي قاضٍ أن يخترعها لو شاء لها ذلك .
- هاتفني البرلماني الشهير "عبده بشر" أحد أعضاء اللجنة الثورية العليا التي أسسها الحوثيون عُـقيب إنقلابهم الدستوري المشؤوم في 6 فبراير 2015م ، مطمئناً على حالي ، وكيف سيكون حالي وأنا أسير أسوار حلفاءه البغيضين ، مدفون بداخل سجن كبير يعج بالقتلة والفاجرين ! ، ناصحاً بتوقفي "المؤقت" عن الكتابة للسماح له بعرض قضيتي على زعيم الحوثيين شخصياً ، وبعد أيام اتصل بي الرجل مُـبشراً بأمر من عبدالملك الحوثي للإفراج عني ، إلا أني لم أخرج ! . وتناقلت وكالات الأنباء والمواقع الإخبارية بسخرية إخلاء سبيل الشيخ "سام الأحمر" حفيد شيخ مشايخ قبيلة "حاشد" الذي اعتقله الحوثيون وأخفوه لمدة طويلة بقسم "الجديري" بالعاصمة صنعاء ، واتهموه بأنه "الصندوق الأسود" لكل الإغتيالات التي طالت قادة حوثيين ومنهم "أحمد شرف الدين" و"عبدالكريم جدبان" .
- "بشــر" الذي انتخبه أكثر من ثلاثين ألف مواطن بثقة في دائرته الإنتخابية للفوز بعضوية المجلس التشريعي للإسهام في حراسة الدستور والقانون ، وتمثيل الشعب أمام السلطات التنفيذية والقضائية والعسكرية يشارك بسعادة في الإنقلاب على الجمهورية ، ويندفع بحماس مريب مع الجماعة الإنقلابية التي نسفت كل القوانين والدساتير ، ليخوض معركته معهم ، ويحنث باليمين الذي أعلنه على رؤوس الأشهاد ، وينبح مع غيره من الجراء الصغيرة في حظيرة رجل الكهف سبباً للعيش على فتات الإمامية اللعينة التي تحاول العودة إلى حكم اليمن بعد مضي خمسين عاماً على تحرر البلد من ذلك الحكم العنصري ومصادرة حقوق اليمنيين في إختيار حاكمهم بالطريقة التي تحقق الإجماع حوله .
- أبلغني المحامي "عبدالمنعم شرهان" أن النيابة احالتني رسمياً إلى القضاء ، وأنه سيكون جاهزاً لدحض كل ما ستدعيه ، في اليوم التالي استدعاني القاضي على غير ما هو مسجل في جدول قضايا النيابة المعروضة للقضاء ، وكانت مفاجأة غير متوقعة لعضو النيابة الذي حاول الإعتراض على اسباب تواجدي بداخل قفص الإتهام ، إلا أن القاضي رمى إليه بالملف ثم إلتفت نحوي وسألني عن أسباب إعتقالي ، فضحكت وقلت لا أعلم ، فكرر طلبه بأن اقول ما أعرفه ، فصارحته أن مقالاتي سبب ما أنا عليه وفيه من بلاء ، ثم اشار إلى النيابة لتلاوة أسباب إتهامي والدلائل المقرونة على ذلك ، كنت واقفاً أمامه مُـكبلاً بالقيد والقاعة تعج بالأصدقاء والمتابعين ، والجميع ينصت بإستنكار لما يُـتلى من قرار النيابة العامة المفبرك ، قبض القاضي "عادل العزاني" رأسه كمن يُـصاب بالصداع ، وجُـعل يلوح بيده اليمنى مشدوهاً على ما يسمع ، ثم سأل عضو النيابة : أين الإتهام ؟ ماذا فعل الرجل ؟ ووجّه نقده ولومه الشديدين على النص القانوني المعيب الذي تلته النيابة ، واعتبره تبريراً واهٍ لحجز حرية مواطن بلا سند أو دليل ، انفرجت اساريري ، فسألني القاضي عن قولي فيما أدعته النيابة ، وكنت جهزت نفسي لتلك اللحظة فقلت له : "أولاً ، أناشدك الله أن تحكم بالحق ولا سواه ، فأنت ضمير العدالة وأساسها ، وخليفة الله في أرضه ، أنت تحكم في الأرض والله يحكم في السماء ، ومستقبلي رهنٌ بما تقوله وتحكمه ، فإن خالجتك نفسك في شبهة تدينني فإني راضٍ بالإعدام شنقاً ".. كان صوتي مجلجلاً وعيناي تحتقنان بالإحمرار والأسى ، كان الألم مبثوثاً في قسمات وجهي ، والحضور ينصتون بإنتباه حذر .. ران صمت ثقيل على القاعة ، وجاء صوت القاضي هادئاً : ما قولك فيما ادعته النيابة . أنكر ذلك جملة وتفصيلاً .. أجبته .
- بدأت المرافعات ، وتقدم المحامي "شرهان" بدفع الإفراج الفوري عني ، ونفي كل ما قالته النيابة من أراجيف باطلة ، ورفع المحامي "ناصر شداد" يده طالباً الإذن من عدالة المحكمة التطوع للترافع عني ، وسألني القاضي عن موافقتي ، فأومأت براسي علامة الإيجاب ، وطلب مني التقدم للتوقيع على ذلك في محضر الجلسة ، وتنبه لقيودي ، وصاح في الجنود أن يفكوا الأصفاد عني ، وأمرني الوقوف أمامه ليشاهدني كل من في القاعة ، وكان يسألني وأجيبه ، كانت مرافعة تاريخية ما زلت أتذكر تفاصيلها بدقة ، وقد أبلى فيها المحاميين "شداد وشرهان" بلاءً عظيماً ، حتى أعلن القاضي قراره العادل بالإفراج الفوري عني ، وهتف كل من بالقاعة : "يحيا العدل .. يحيا العدل" ، فأعترض عضو النيابة اللعين ، مطالباً استئناف الحكم ، فأشار إليه القاضي بحق الاعتراض على أن يُـفرج عني فوراً ، وكان اليوم قبل الأخير لنهاية الأسبوع ، ثم التفت إليّ كالذي يُـبدي انزعاجه : وأنت عليك ترك المقالات الموجعة ، ويجب أن تحترم الناس ولا تهن أحداً !، فشرحت له ماذا يعني مقالي المنشور في إحدى الصحف المحلية بعنوان "عودة قريش" وبأنها أحلام كاتب ، ولا يؤخذ المرء بجريرة حُـلم تحدث عنه بصوت عالٍ !، تبسم القاضي "العزاني" ، وأحنيت رأسي قليلاً أمامه ، امتناناً لما فعله من أجل العدالة ، ثم طلب مني القعود حتى ينتهي من بقية ما بيده من القضايا الأخرى ، فحكم بالإفراج الفوري عن ثلاثة من السجناء ، ثم غادر القاعة وذهب إلى مكتبه وأناب عنه القاضي الذي كان يجلس عن يساره ، وقد سمعت أن ممثل الحوثيين في المحكمة ذهب إليه فور سماعه نبأ الإفراج عني وكان يقفز كالملدوغ ويصيح ويولول ، إلا أنه لم يستطع فعل شيء سوى أن يحشد ومن معه لجلسة الغد .
- أخذتني عربة السجن ، وكنت منتشياً كعريس يتجهز لحفل زفافه ، عانقني العسكر وباركوا لي حكم البراءة الجميل ، شعرت بسعادتهم وكراهيتهم للحوثيين بأكثر مما يُـضمر لهم أشد الناس خصومة وعداءً ، ركِبت في مقدمة العربة بجوار السائق متحرراً من قيودي ، راجعاً إلى السجن حتى يصلني قرار الإفراج الخطي من النيابة كما هي الإجراءات المتبعة ، دخلنا عتبة بوابة السجن ، فألفيت أصدقائي "علي البدوي" و"حسين العشملي" و"مصطفى الوادعي" و"بندر الأضرعي" و"محمد القاضي" و"الشيبة الشيباني" ، كانوا توليفة من المتهمين الرائعين الذين احببتهم كثيراً ، وعرفتهم عن قرب ، وأنست بقربهم ، وكنت لا أطيق فراق جلساتهم الجميلة ، ولا المكوث بينهم كأسير ، كثيرون تجمعوا حولي يهنئوني بالقرار ، وصلهم الخبر بالهاتف من اصدقائهم قبل أن اصل إليهم ، وانتشر الخبر في شبكة التواصل الإجتماعي سريعاً ، أدركت أن بوابة العبور إلى الحرية قد اقتربت ، وأن الحوثيين يقاتلون لإبقاءي داخل السجن ، يا لهذه الجماعة الظالمة ، تريد زج الناس على إختلافهم في جحيم ظلمها وظلماتها ، فإما أن تكون معها صارخاً بالكراهية والموت ، أو صامتاً تحت الأرض في قبورها التي يستحضرون فيها أرواح موتاهم منذ قرون طويلة ! ، وقد قال لهم القاضي العظيم "عادل العزاني" الذي ظننته منهم ، أنه لا يستطيع أن يحكم لأجلهم ، وإن ارادوا أن يأخذوني رهينتهم فليفعلوا ، دون ذلك لا يستطيع أحد أن يوفر السعادة لمزاجهم الانتقامي البغيض ، فلم يكن أمامه ملف إتهام ، إنما أوراق مدسوسة ومُلفقة ليس عليها إلا أن يُـسجن من ادعاها وألفها ورماني بها ، يا لسعادتي ، طعم القات اليوم كالسكر ، كل شيء رائع ، وصلت إلى جامع السجن ، وصليت ركعتين حمداً وشكراً لله ، كنت أشعر برعايته جل في علاه ، والتفتّ إلى اصدقاء زنزانتي فأحسنت إليهم بما تيسر من المال بشارة خير بقدوم قرار الإفراج ، ونجاتي من الغمّ والحزن وكيد الحوثيين ، إن كيدهم عظيم .
- تلك أيام جميلة على قسوتها ، أضافت تجربة نوعية وإنسانية في حياتي ، لن استطيع الكذب على الله هنا وأنا بين يديه ، أسيراً لدن مجموعة من الظالمين الطغاة ، اقتربت من إلهي أكثر ، كنت أسجد لأقترب ، عرفت ذلك من آية قرآنية في سورة العلق " كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب " ، لا يتحقق الإقتراب إلا بالسجود ، الخضوع لله عز وجل ، التضرع إليه في ظلام الليل ، ووحشة السجن . الصيام لأجله ، فِعل العمل الصالح ، مقاومة الظلم بالإحسان ، والقهر بالصبر ، والتجلد في مواجهة البغاة الأشرار ، كُـنت متيقناً أن "البشير" سيأتي إليّ ، ويُـلقي قميص يوسف ، لأرتد بصيرا ، وأنفذ إلى الحرية من جدار الإنقلاب الطائفي المتوحش ، كنت أنادي ربي في بطن "الحوثي" الذي إلتقمني : اللهم لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ! .
- وفي المساء ذهبت إلى باحة مسجد السجن ، وقد استأذنت سادنه على ذلك فسمح لي ، ووقفت بين يدي خالقي طويلاً ، بكيت كما لم أبك يوماً ، وبخشوع الأنبياء صليت وحيداً "اللهم انى اشكو اليك ضعف قوتي و قلة حيلتي و هواني على الناس يا أرحم الراحمين انت رب المستضعفين وانت ربى ، إلى من تكلني ،الى بعيد يتجهمني ، ام الى عدو ملكته امري ، ان لم يكن بك غضب عليّ فلا ابالى ، ولكن عافيتك هي أوسع لي اعوذ بنور وجهك الذى أشرقت له الظلمات و صلح عليه امر الدنيا و الاخرة من ان تنزل بي غضبك او يحل على سخطك لك العتبى حتى ترضى و لا حول ولا قوة الا بك " ، وأطلت في الصلاة حتى جاء النور ، فصبغ سواد السماء زرقة عميقة ، وناديت اصدقائي وتناولنا طعام الفطور وشربنا كؤوس البـُن اللذيذ بالحليب ، كان "محمد نهشل" يُـطلق الطرائف الصباحية ، ويتذكر مواقفه السابقة ، وفي الوقت الممتد من بزوغ الضياء إلى إرتماء نور الصبح على الأرض من حولنا دُرنا المرات في فراغ السجن المحاط بعنابر السجناء ، الذين غالباً ما يعودون إلى فُرِشهم لاستكمال نومهم بعد الصلاة ، وكنت أتجهز للذهاب بداخل عربة السجن متحرراً من أصفادي ، إلا أن مشرف السجن كان غليظاً معي ، وشعرت أن لديه توجيهات بذلك ، قيدني بقوة ، ورماني بداخل العربة في مكان ضيق ، محشوراً وسط صندوق من الروائح الكريهة ، وصلنا إلى قاعة المحكمة ، ودخل القاضي وفي هيئته وقار وطيبة أصيلة ، عيناه الواسعتان لونهما مشوبٌ بخضرٍة وعسلية ، وفيهما شغف وذكاء ، في وجهه الأبيض حمرةٌ خفيفة ، وفي لحيته الأنيقة اصفرار لطيفٌ ، وقليل من الشعر الأبيض الذي يزيدها بهاءً . في سمته صفاء رباني يفتقر إليه كثيرٌ من القضاة والعلماء ، وقد رآني بطرف عينه اليسرى وهو يخترق القاعة من أمامنا ، مرتدياً معطفاً أسوداً طويلاً من الحرير ، ومعتمراً عمامته لكأنه فارس من زمن الصحابة ، يصعد إلى مكانه المهيب ، ووجه كلامه إليّ : ألم يفرجوا عنك يا بُـني ؟! ، واستطرد مستأذناً استخدام هاتفه للاتصال بوكيل النيابة الذي لم يجبه ، وعلى الفور صاح في عضو النيابة الذي بدا مرتبكاً عن أسباب تأخير تنفيذ قراره ، فقال له أن مبررات القانون تقول أن لدى الطرف الثاني التماساً يريدون تقديمه إلى عدالة القاضي بوقف قراره السابق ، فاندهش ، وبدأ على اندهاشه علامات غضب وقال "أنا لا أتراجع عن قراري" ، وأشار إلى عضو النيابة لاستكمال المرافعات ، وحين شاهدني القاضي مرة أخرى مصفداً بالقيود ، صاح في الجندي وزجرة وأهانه ، ووجه بفكها عني دائماً ، وفي هذه الجلسة تقدمت عبر المحامي "ناصر شداد" بوثائق تثبت تورط الـمـُدعي "هادي القحص" بالكثير من قضايا التزوير والأحكام السابقة في حقه من قبل السلطات السعودية ، وقد زودني بها ضحايا سابقين لهذا الرجل الكريه ، وأن ما يقوله بإثبات شخصيته اليمنية زور وبهتان عظيم ، فوقع الرجل اللعين في شر أعماله ، وكان القاضي يُـسجل كل تلك الوثائق في محضر الجلسات ، والتفت إلى محامي الـمُـدعي وقال له مباشرة لو أن هذا السعودي جاء إلينا اليوم لوجهت بحبسه بدلاً عن هذا المظلوم البريء ، ثم التفت إلى عضو النيابة المتواطئ مع الحوثيين ويدعى "محمد الحفاشي" مستنكراً " من العار أن تفعلوا بالرجل كل هذا !" ، إنكمش "الحفاشي" على نفسه ، وحاول أن يدافع ، فأشار إليه القاضي أن يسكت أحسن له ولمستقبله المهني ! ، فزاغ بصره وشعر بالخطر .
- طالت المرافعة هذا اليوم ، وحضر مندوب الحوثيين "علي الحماطي" في ركن القاعة بصمت وحوله بعض مرافقيه المسلحين ، فطردهم القاضي خارج القاعة ، كان قوياً صارماً ، مهيباً كخليفة اسطوري ، من زمن أولئك العظماء الذين لم نقرأ عنهم إلا في كتب المقفع ، وحكايا الف ليلة وليلة ، وقرر القاضي بأن كل ماسبق مجرد بلاغ كيدي يجب معه ملاحقة الـمُـدعي قانونياً ، وأنه يُـحذر النيابة من تأخير الإفراج الفوري عني ، ويحملها كل المسؤولية في ذلك ، والتفت إليّ ، وخط بسبابته على وجهه مؤكداً أني لن أنام اليوم إلا بين أولادي وعائلتي .!
- شكرته كثيراً ، وكان كل من في القاعة يعانقونني على هذا النصر المؤزر ، وهذه البراءة الواضحة التي أعادت لي الأمل في عدالة الله التي أضاعها بعض خُـلفاءه في الأرض ، وكانوا يحكمون لأهوائهم ، فلا ينصفون مظلوماً ، ولا يردعون ظالماً ، ولا يعيدون لكل ذي حقً حقه ، ولما خرجت من قاعة المحكمة ، وجدت عدد من الزملاء مراسلي وسائل الإعلام المحلية الذين شرحت لهم ظروف وملابسات الحكم التاريخي الذي أصدره القاضي المبجل ، وأنه يُـعد انتصاراً للصحافة والصحفيين على الميليشيا الانقلابية ، بما يُـعيد الأمل في مراكز الثقل المؤسسي للدولة كالقضاء مثلاً ، لما له من مكانة تستطيع ردع كل الظالمين عن ظلمهم ، ومعاقبتهم على غيهم وبغيهم .
- طار خبر الإفراج الثاني عني ، ووصل إلى كل المواقع الإليكترونية ، وامتلأت صفحتي في فيسبوك بالتهاني ، إتصلت بزوجتي التي بكت فور سماعها النبأ ، وقالت أنها لم تنم الليل بطوله تدعو أن يسخر لي الله قلوب القضاة ويجعلهم ينطقون ببراءتي .. وشعرت أنها تمسح دموعها بكفيها ، وتقول متهدجة في حماس "أدركت أن الله لن يتركنا ، فأنت بريء وصادق ، أنت تكتب لكل اليمنيين ، وتتحدث بضميرهم ، أنت حبيبي" .. وكنت على الهاتف صامتاً أقاوم شعوراً لا يوصف بالتحليق في تلك اللحظة لمعانقتها وتقبيل يدها والارتماء في حضنها كعاشق سجنه الشياطين الحوثيين بعيداً عن محبوبته وأم أولاده .
- ظل قرار الإفراج عني يراوح مكانه ، جاءني وفد من مشايخ قبليين تابعين للحوثي يناشدوني الظهور في قناة "المسيرة" للحديث عما أسموه "العدوان" السعودي على اليمن ، فامتنعت واعتبرت ذلك ابتزازاً غير مقبول ، أعلنت إضرابي عن الطعام حتى يتم تنفيذ قرار المحكمة ، ونشرت ذلك في مواقع التواصل الإجتماعي و تناقلت الكثير من القنوات المحلية والخارجية الخبر بكثافة غير مسبوقة ، وكنت أختلس لنفسي مكاناً أضمد فيه جِراح جوعي بالقليل من الأكل ، مخترقاً قرار الإضراب ، ومتظاهراً بتنفيذه ، وقد ضبطني في حالتي تلك سجيناً ألفيته يصورني بعدسة هاتفه المحمول ، فلحقته وعاتبته ، فاستحى مني وحذف الفيديو ! .
- خمسة أيام من قرار الإفراج عني ، وما أزال في السجن ، إلى أن جاء يوم الأحد 12 إبريل 2015م ، بهاتف والدي الحبيب يبشرني بأن اليوم قد يكون تنفيذ القرار ، وأنه يتوسلني الإعتذار لسيد الحوثيين وزعيمهم لتطيب الخواطر وتصفى النفوس ، رفضت مجدداً بعناد لا أدري مصدره وسببه ، وذهبت إلى مسجد السجن ، كان حفظة القرآن من السجناء يدورون بداخله في حلقة مفرغة ، وبعضهم مضطجع يتمتم ما تيسر من المحفوظات المقدسة ، جلست مقهوراً متوسلاً إلى بارئي وخالقي ، أدعوه ألا يلجئني إلى الظالمين الحوثيين ، وأن يجعل خروجي مُـشرفاً ، ورأسي مرفوعة إلى السماء ، وقبيل صلاة الظهر ، وصلني النبأ السار بالهاتف من أخي الأكبر بأن قرار الإفراج الخطي تم انتزاعه من النيابة بعد تدخلات كبيرة ، وأنهم في الطريق إليّ ، أبلغت اصدقائي السجناء بذلك ، وودعتهم في هدوء ، وجلست أرقب وصول البشير ، وتقدم صديقي "قيس المقدشي" بالغداء المرسل إليه من أهله ، وتحلق الجميع في دائرة ، ووصل المنادي يصيح بإسمي وابتسامته واسعة "هيا جهز فرشك وأمتعتك" ، ولم يُـصدق كل من كانوا بجواري ذلك النبأ ، فكشفت لهم عنه ، وأكدته لهم ، فعانقوني وودعوني ، وأقاموا لي موكب زفاف حتى خرجت من البوابة الرئيسة للسجن الداخلي ، وتلقفني مسؤول السجن عند الباحة الترابية ، وتجمهر الجنود حولي يبغون إكرامية الإفراج ، ومدير السجن غير مصدق لما يراه ، فراوغ كثيراً ، وتهرب ،ثم رضخ للأمر ، وفي البوابة الخارجية استلمت هاتفي من الأمانات ، وعبرت إلى الحرية بعد أربعة وستين يوماً من الأسر والإختطاف والتشويه التعسفي الظالم ، إلا أن اليمن ما تزال مختطفة وأسيرة ، ذُبحت الجمهورية ، وتردى الوضع كله ، وأصيب الناس في اقتصادهم ومعيشتهم ، قال لي أصدقائي عن موقفي مما حدث ، فكررت عفوي عن كل الذين ساهموا في إيذاءي ، لكن هل تعفو عنهم مدن الدمار التي دكتها آلة البطش الحوثية ؟، وهل تغفر لهم عدن وتعز ومأرب والجوف وعمران وصعدة ؟، من يوقف الدم الذي يشربه الناس مكرهين من أجساد عائلاتهم وأقاربهم الذين يسقطون بلا سبب ، ما الذي أجبر الحوثيين على قتل اليمنيين بهذه الصورة المفزعة ، لماذا يكرهوننا ، ويقنصون رجالنا وأطفالنا ونساءنا في كل مساء تغيب فيه الشمس ، وتنتشر بحلول الظلام الذئاب المنفردة لنهش السلام وتعزيز الكراهية واختطاف الصبية وإدارتهم وفق آلة حرب قذرة ومعقدة في حروب أهلية طائفية تُـجذر الغل لعقود قادمة .
- استقبلني على باب السجن الكبير عدد من الأصدقاء الذين ابلغتهم بحذر ، وتحركت على الفور إلى منزلي على سيارة احدهم ، ووصلت إلى الباب ، وناديت بإسم طفلاي : عدي وقصي ، وكانت زوجتي وشقيقاتي يطلقن الزغاريد من شرفة ونوافذ المنزل لحظة وصولي ، وأخي الصغير ينثر الألعاب النارية في الهواء ابتهاجاً بقدومي ، احتضنت نجلاي فعادت إليّ الروح التي اختفت وأُختِطِفت ، استنشقت رائحتهما وضميتهما إلى صدري بقوة ، قبّـلتهما بحرارة ، وفي سلالم البيت احتضنت شقيقاتي وهن يرتجفن غير مصدقات أني عُـدت من الموت ، وبكت زوجتي على صدري وهي تتحسس بكفيها ملامح وجهي ، غالبت دموعي ، واجتمعنا من جديد على طاولة الطعام ، لم يتوقف هاتفي عن الرنين ، احتشد المهنئون ، والمعتذرون عن زيارتي ، وتوالت العزائم وطلبات المقيل ، كنت مبتسماً كرجل فاز بالجنة ، وقررت في ذلك اليوم أن اكتب ما حدث ، وقد سقط عني الكثير ، وغابت التفاصيل الدقيقة التي دونتها في ملاحظات يومية ، أبقيتها في اليمن وغادرت بعد خروجي من السجن بشهر واحد هارباً إلى السعودية ، فما تركني الحوثيون في حال سبيلي ، لاحقوني بالرصاص إلى منزلي ، وحاولوا قتلي مرتين ، أصيبت أختي الكبرى وطفلتها برصاصاتهم ، نهبوا سيارتي ، صادروا وظيفتي ، أوقفوا مرتباتي ، كانوا يدفعونني إلى مواجهتهم بالعنف ، ولم يكن أمامي طريقٌ سوى الهروب في جنح الظلام مخترقاً العديد من القرى ، والطرق الترابية للوصول إلى مدينة الحديدة "شرقاً" ، ومنها إلى منفذ "حرض" الحدودي ، حيث استوقفتنا عشر نقاط حوثية ، كانت تحتجزني لدقائق وتسألني عن سبب وجهتي إلى المملكة ، وفي باب المنفذ اليمني على شباك الجوازات دفعت عشرون ألف ريال يمني ، لضابط شرطة تعرف عليّ ، فأقنعته أني ذاهب لأداء العُـمرة فقط ، وسمح لي بالخروج إلى منفذ الطوال السعودي ، وهناك شعرت بحريتي الحقيقية ، أبلغتهم بنية مقصدي وماتعرضت له من أذى وملاحقة ، فتدافعوا لقول "لبيك" ، وختم ضابط سعودي تصريح العبور وعلى بزته العسكرية الداكنة الأنيقة شارة كُـتب عليها إسمه "علي الشهري" ، ناولني التصريح مبتسماً كأنه يعرفني منذ زمن "مرحباً بك في بلاد الحرمين الشريفين" ، حملت حقائبي فوق ظهري ، خرجت من المنفذ الحدودي إلى الضوء ، وخلفي يبدو الظلام موحشاً ، وطني الذي كان لي يطاردني ، يلاحقني ، وقفت صامتاً مبهوراً .. إلتفت وجُعلت أُحدق في سواد اليمن ، كمن ينتظر شيئاً ، السعودية تنطق بالحياة والنور والأمان ، وبلادي تعيسة مقهورة ، يلتهمها الطاعون ، خطر لي أن أعود إلى الظلام ، والرصاص والرعب والقهر ، وكالذي رأى وحشاً يقفز إليه ، تراجعت كالملدوغ ، أطلقت لساقيّ الريح ، وركبت سيارة أجرة نظيفة ،سائقها شاب "جيزاني" يُـكثر التسبيح ، سألني عن وجهتي .. "لست أدري .. تحرك فقط" ، كنت أفكر في مناطق عديدة ، الرياض ، مكة ، المدينة ، أم البقاء هنا في جيزان ، المهم أنا منهك الآن ، دعني أذهب إلى أي فندق قريب ، ثم أرحل مع شروق الشمس ، حُـراً .
صحيفة الجزيرة السعودية