غادة السمان
أخبار غربية تنهار على رؤوسنا كمطر من سجّيل. إنها أخبار الأرض العربية التي تتمزق في سوريا والعراق واليمن وليبيا.. و.. و.. وأخبار «جسد الأرض الفلسطينية» والاحتلال يحاول قضمها لقمة بعد أخرى على كل صعيد، وللأسف الشديد يكاد ينجح في اغتصابها وانتهاك حرمتها.
مقابل ذلك تهبط علينا أخبار لا عقلانية مفجعة.. كأنها من «مسرح اللامعقول» العربي الشاسع.
هذا رجل مسلم يترك ابنته تغرق كي لا يلمس جسدها ذكر هو «عامل الإنقاذ» وبالتالي يمنعه من إنقاذ حياتها تنفيذاً لفتوى!
وهذا رجل ترك زوجته تنزف خلال ولادة عسيرة ولم ينصت لطلب (الداية) المولّدة نقلها إلى المستشفى، وذلك كي لا يكشف عليها طبيب ذكر! وماتت المسكينة وطفلها ونجحت «الفتوى»!
«سوبر ماركت» الفتاوى!
في الوقت ذاته، تتابع السلطات الإسرائيلية الاقتحام اليومي لباحات المسجد الأقصى.. بفجور سياسي وعهر إعلامي وإذلال يومي لنا، فشرطة إسرائيل صارت تحدد بصفاقة أوقات صلاتنا.
وبينما يقلق البعض على «ثمار» أجساد النساء المشتهاة المحرمة، تتابع إسرائيل قتل ثمار التين والزيتون وهدم بيوت العرب بذرائع شتى، حيث ينتقل الفلسطيني من بيته إلى خيمة فوق خرائبها مصراً على الصمود في أرضه ويُشيّد العدو الغاصب الملقب بـ(المستوطن) بيتاً له.
وكثيرون ينشغلون بهموم (مصيرية) مثل صالونات حلاقة النساء (حلال أم حرام) وتحريم إزالة الشعر النسائي الزائد هنا (بل) هناك وشروطه الشرعية (!) بينما يتم (نتف) الأشجار الفلسطينية العريقة من جسد الأرض كالزيتون ويعيش المقاوم المدني الفلسطيني صامداً ذائقاً الحنظل. كل يوم ونصف عالمنا العربي مشغول بأوصاف الحجاب الشرعي (للحريم) (قبل) ما يحدث (مثلاً) في قرية «سوسيا» العربية من هدم في (فلسطين المحتلة) وسيحدث لسواها عما قريب والذرائع الإسرائيلية (الحضارية!) لهذا «الاحتلال النازي» كثيرة يستند معظمها على خرافات لم يثبت التاريخ صحتها، وتتم إهانتنا في «سوبر ماركت» الفتاوى العربية لانشغالنا بالتهام بعضنا بعضا ومعانقة (الكرسي) حتى على أشلاء الشعوب تحت لافتة: «أنا أو لا أحد!». هنا نحن نرى الإسرائيلية مجندة ومقاتلة لسرقة أرض سواها، ونسمع من (سوبرماركت) الفتاوى الأوامر بملازمة المرأة للبيوت بدلاً من الدفاع عن كرامة باحات (الأقصى) المستباحة، صوناً (للعرض!) فأي عرض تبقى للمرأة العربية والرجل أيضاً بعد ذلك الإذلال كله لجسد الأرض؟
يا غسان، الأدباء قرعوا جدران الخزان
منذ فترة، طالعنا خبراً يكاد يكون هزلياً لولا غرقنا في أحزاننا.
الثوب (الميني) لمطربة لبنانية غنت في مهرجان أردني كان سبباً لزلزال «البحر الميت» الذي تصادف وقتئذ!.. واعترف بأنني لم أسمع كلمات صاحب الفتوى من فمه ولعله كلام مُحرّف، ولكن مجرد الربط بين ساقي مطربة وزلزال البحر الميت يزلزل هدوء من سبق وطالع عن الضحايا السوريين في (شاحنة النمسا) يوم مات عشرات اللاجئين من سوريا اختناقاً في شاحنة لنقل اللحوم المشوية.
الرائع غسان كنفاني صرح في روايته: لماذا لم تقرعوا جدران الخزان.. ولكنهم قرعوه يا غسان، ولم يستجب أحد، فثمة انشغال (مكبوت) بجسد المرأة مقابل شبه اللامبالاة المريضة بإهانة المسجد الأقصى كرمز لجسد الأرض العربية.
اللاجئون بحراً وبراً واختباء في مخازن شحن الطائرات يشبهون الهارب من الحريق بالقفز من النوافذ، ومن يجرؤ على محاكمة سلوكهم والوطن العربي كله فقد رشده؟ ولطالما قرع الأديب جدران الخزان من زمان ولم ينصت له الحاكم العربي.
أعز ما يملكه الرجل!
جثث الضحايا العربية السورية التي يقذفها البحر على الشواطئ الغربية يزلزل قلمي وقلبي، لا الفستان القصير لمغنية جميلة.
الطفل أيلان الذي أيقظ الضمير الغربي المثقل باللامبالاة نحونا، (وثمة الآلاف من أيلان ماتوا قبله في الحروب الهمجية للإخوة الأعداء) هذا الطفل ليس استثنائياً ولا فريداً.. لكنه الشرارة التي أشعلت احتقان غازات الشعور بالذنب الغربي بعدم اللامبالاة، ولكن هل أبدينا كعرب مبالاة مشابهة؟ وإسرائيل تقوم بتهويد المنهاج في المدارس الفلسطينية لطمس هوية الأجيال الجديدة.
ومعذرة يا ابن الدوابشة الذي أحرقوه حياً لانشغالنا عنك بطول فستان المطربة الجميلة الذي زلزل بحارنا.. كأنه ليس في كل ما تقدم ما يستدعي زلزال صحو (من المحيط إلى الخليج) وكأن «شرف البنت» أهم من «شرف الأرض» وأي شرف لنا، نساء ورجالاً، حين تستباح أرضنا العربية على هذا النحو؟ ويتم اغتصابها وانتهاكها؟ ويفقد الرجل العربي أعز ما يملكه: كرامته!
ضرب المرأة بالمسواك أم بفرشاة الأسنان؟
بالله عليكم، كفوا عن شنق المرأة بلحى الغافلين عما يدور على أرضنا العربية من إذلال للجميع، وكفوا عن الفتاوى بشؤون تحريم يطال المرأة في الصغائر والكبائر، واتركوا الخالق تعالى يحاسبها، كما سيحدث لهم تماماً، والله أعلم بمصيرهم، على الرغم من أن بينهم من يزعم انه يعرف كم من متر مربع من أرض الجنة سيمتلك، وكم من الحور العين سيقمن على خدمته إرضاء لشهواته. نتمنى ان نرى أولئك الناطقين باسمه تعالى يولون بعض اهتمامهم بجسد الأرض قبل جسد المرأة وهل ضربها بفرشاة الأسنان حلال أم بالمسواك فقط، وهل زراعة الضرس حلال أم حرام، وهل طفل في الثامنة يتحسس (عضوه) مسكون بالشيطان.. وهل.. وهل.. ولعله من الواجب التذكير بأن روح الإسلام أنصفت المرأة منذ قرون بعيدة، وحرّمت الممارسات الجاهلية القاضية بأن تكون موؤودة. والإسلام كان أول تشريع في التاريخ يمنح المرأة حق الملكية المالية، وهو ما لم تحظ به حتى المرأة الأوروبية إلا إلى ما قبل حوالي نصف قرن.. فما الذي يحدث لنا؟ وعلام هذا الهرب المروع من الحقائق التاريخية المخزية التي تدور على جسد الأرض إلى الاختباء في تفاصيل جسد المرأة وإطلاق الفتاوى بشأنه هذا والبيوت كلها وشوارع الوطن مهددة بالاستباحة والذكور مشروع عبيد والنساء مشروع سبابا!.
القدس العربي