خالد العلواني
التاسعة ذوبا بتوقيت نهديكِ. كان المساء شجنا، والعمر أمنية، والبحر لهفة، والقمر أبجدية.. كنا على مسافة هفوة لم تكتمل، وكنت أنت الأنوثة والعطر والندى..
على أهداب البحر، حيث القلوب مضرجة بدم الاحتراق اللذيذ، وعلى مدار الصمت الصاخب بالرغبة تجاذبنا أطراف الابتسامة، وقرعنا كؤوس الأماني واحتسينا ضوء آلاف النجوم . وددت أن أصرخ في وجه البحر، وأن أتمرد على السائد الاجتماعي، وأنسف جدران الرصانة التي تواطئنا حمقا على بقائها بيننا، لكن صوتا قادما من أعماق الروح كان يثبطني عن تنفيذ هذه الأفكار الثورية التي تتحرش بي كغانية هلوك.
وفجأة وجدتني أتبرم مثقلا بحضورك الملغز: تعبت -يا سيدتي- وأنا أبحث عن مبرر منطقي لاحتضان من يسكنني ألقا ودهشة. احتضانك أنت. مبرر أخفي وراءه هبلي بك، وأتسرب من بين مساماته إليك قبلا وقوس قزح. لكني لم أجد غير الجنون منطقا يصهرني فيك لوعة، ويفرغك في أوردتي شلالا من المباهج.
لذتُ بالصمت، وأخذت أبحث عن ظلال لواعجي على مرايا روحك، وملامح وجهك، فلم أر إلا أنت، تلك الحورية المجللة بالبحر، والحرب، والحب.. يا إلهي أيعقل أن يكون للمحبوب الواحد هيئات وألوان ومعاني شتى من التلبس بالقلب شكلا ومعنى، حلولا واستعصاء.؟!
تُرى ما الجرم الذي اقترفته حتى استحق لعنة الانسحاق عشقاً في ثنائيات الوجع الباذخ، وجعك أنتِ.!؟ وأي سلطان يخولك -أيتها الفراشة المتوحشة- التصرف في جغرافيا عواطفي، ويجعلني سجين اشتهاءاتك وتشبعك!؟ لا شيء، لا شيء. إنني سيد نفسي، ولن أكون ظلا لرغبتك، أو عبدا لحضورك المستبد. أكاد أسمعك وأنت تبتسمين قائلة: "لا جدوى من ثورة تحمل بذور فشلها في طياتها. أنا قضاء الحب الوارف الذي يؤثث قلبك، وسطوة القدر الذي يليق بك".
تبا لك من حبيبة تتسلى بعذاباتي عن سبق غنج وتضوع. أكاد أفقد صوابي من سلطاتك السادية التي تثخن فؤادي عصرا، وعطشا.
كيف فخختِ فؤادي بك؟ بل كيف وقع قلبي في فخك وهو يدرك أنك متورطة حد التمادي في تجريفه والعبث ببنيته التحتية؟ لماذا كلما باعدت بيننا الجغرافيا كنت أكثر حضورا في القلب؟ ولماذا تصرين على اغتيال ذلك الطفل الذي يسكنني؟ وأي جبروت يجعلك قادرة على تخليق شاب كامل الغرام بك، من جينات ذلك الطفل الخجول اللائذ بحضن أمه؟ ثم أليس من الحمق أن أستمر في رمي تساؤلاتي على طاولة أنثى تعيش هناك حيث لا أنا ولا أسئلتي؟
2
ومن قال إنها ليست هنا؛ حيث هي وأنا والكثير من الحب الجامح؟. إنني متلبس بها، وهي تسكنني منذ شهقة النظرة الأولى؟. هاهي في موكب بهيج تسير في شراييني، تنثر في مساءاتي الغيم والنجوم، وتزرع في كياني مشاتل الطيش، وبواعث الكلف. لقد كتبت إليّ ذات يوم: " للأحبة جغرافيا تغنيهم عن أطلس الأرض، إنها جغرافيا؛ أغنى وأندى". نعم أنا لا أراها في هذه اللحظة، لكني على يقين أنها موجودة. ربما لا أراها لأنها غافية في فؤادي وعين الإنسان صممت للنظر بعيدا إلى خارج الذات والكينونة البشرية. ويحتمل أن تكون مجرد تيار عشقي تستقبل الروح موجاتها وتحيلها إلى صورة بذات القوانين التي تعمل بها أجهزة البث التلفزيونية. إن دليل وجودها الوحيد في مداري العشقي، هو تلك الرعشة المدوية التي تهز الكيان وتضيء أقطار النفس.
3
البحر هادئ على غير عادته، أمواجه الناعسة تلامس قدماي. جماله يبهرني حتى ليكاد أن يصنع مني شاعرا يحيل عيون الحبيبة إلى بحر، ويحيل البحر تفعيلة وجدٍ، وقصيدة ضوء.
وجلاله يستجيش في روحي يقظة تسبيح الخالق القدير. أمواجه النزقة لا تكف عن دغدغتي. أتراجع خطوتين إلى الوراء، وأجلس في مواجهته بنصف اتكاءة على كومة صغيرة من الرمل الريان. كل شيء من حولي يتحرك ما عداي، ربما لأني صرت في اللامكان دون وعي مني. وقد يكون الكيان البشري في بعض الحالات مسرحا لحركتين غير متسقتين صوب عوالم متضادة الجهات. وفي رمشة جفن، تغيرت ملامح المكان. كل شيء من حولي صار هي، وهي فقط، بعطرها، وعطائها. إنها تتضوع صبابة حتى سابع بحر. وثبت إليها كي أعانقها وأفنى فيها، وعلى مسافة وردة منها، صاح ديك الشك في رأسي المثقل بها قائلا: وما يدريك إنها هي.
4
تلعثمت خطواتي، وتعثر قلبي لوهلة. كانت ترقبني وتقرأ تقلبات مشاعري. اقتربت مني حتى
صارت على مرمى قبلة، وقالت وهي تبتسم: يا لك من أحمق. أتشك في وجودي. أنت دليل وجودي.
لم تزدني كلماتها إلا حيرة. أي أحجية هذه التي رمت بها إلي كطوق نجاة، وما ثمة فيها نجاة من شك. وكيف أكون دليل وجود لفراشة ناسفة تكاد أن تأتي على رشدي وملكوت يقيني. أدركت مدى الحيرة التي وضعتني فيها، اقتربت مني حتى صعقني نهداها، حركت عينيها في دلال، وزمت شفتيها لتخفي ابتسامة ماكرة، وأخذت بيدي وسارت على تماس متوازٍ مع مد البحر، وأنا أسير من ورائها، في ذهول وسعادة وتعجب. يا لها من فواحة فاتنة. قلت لنفسي وأنا أتمايل طربا وسكرا على وقع خطواتها ولحن تثنيها. لحظات قصيرة بدت لي عمرا متطاولا، تمكنت خلالها من التهامها رغبة، وتلحينها أغنية، وهندستها أمنية. أمطرتها قبلا وعريتها للمرة الألف، قبل أن نصل إلى بغيتها، حيث تنحل عقدة الأحجية، ويتاح لنا الاصطياف في غيمة من بنفسج وحرير.
سحبت يدها المضمخة بعرق الغرام وقالت: ألا يذّكرك هذا المكان حيث الصخرة التي يحف بها الموج بشيء؟ قلت: عطرها، إنه ذات العطر الذي يتضوع منك. يا إلهي كم انداحت تلك الفتاة في شراييني فرحة ونشوة وجنونا، وأنا أطبع على خدها القبلة الصفر، وأرسم على شفتيها خارطتي إلى النعيم. لكن ما أدراك -يا سيدتي- بقداسة هذا الرفيف الرطيب ومكانته في روحي؟ هل أخبرتك هي، أم أن لك فتوحا روحانية تضاهي حضورك الفاتن؟ ابتسمت وهي تزيح خصلة من شعرها إلى الوراء قائلة: وهل قبلتك هي يومها؟. لا، كانت أكثر خجلا من أن تفعل لكنها دست رأسها في صدري، فاحتضنتها بلهفة السنين.
فيما كان نهداها يرصعان سماوات قلبي بآلاف المجرات وملايين النجوم. ويفتتحان لروحي نافذتين على الفردوس، وأصناف النعيم. قالت: لستُ أدري من منكما المحظوظ أنت أم هي؟. قلت وأنا أمعن النظر في عينيها الذكيتين: كلانا محظوظ بالآخر، فالحظ والحب كالعبادة لا بد له من طرفين.
أفردت يديها واحتضنتني وهي توشوشني: ليتني هي. تفانيت فيها، فككتها، وأعدت تركيبها مرات عدة وفقا لمواصفاتي العشقية فكانت في كل مرة تعود كما هي. ذات الفتنة والحضور المستبد. تيقنت أنها هي. عزفت على أعطافها أغنيتي المعتقة بالجنون. ضحكت بهستيريا وضحكت معها، تقافزنا، وتصابينا، سبحنا معا في البحر، كما سبحنا في شريط العمر، وتجولنا في حقول الذكريات. تبادلنا اللهفة والقلوب، وصنعنا من رحيق القبلة الأولى ملايين القبل..
# من مسودة كتاب في طور التشكّل. أهديها لعشاق الكلمة بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية