وجدي الأهدل
من يُشاهد نشرات الأخبار سيعجب من مقدار الوحشية المتفشية بين العرب. هاهم الإخوة في الدم يقتل بعضهم بعضا في خمس دول عربية على الأقل، والعدد مرشح للارتفاع لأن الخلاف والضيق بالاختلاف يتمدد كالوباء على الرقعة العربية. وكل جماعة محاربة أو تنظيم مقاتل يسعى إلى الفوز بلقب الأكثر وحشية ودموية، وكأننا في غابة تعربد فيها حيوانات مفترسة.. ومع الممارسة اليومية لأعمال الاغتصاب وإراقة الدماء ينكمش الضمير الأخلاقي حتى يتلاشى، ويصبح الفرد من هؤلاء وحشاً أشد هولاً من تلك الوحوش المشوهة التي تُشاهد في أفلام الرعب.
قراءة الأدب كفيلة بترويض الوحش الذي بداخلنا.. والفنون بصورة عامة تُهذّب الطبيعة البشرية التي هي في الأصل أقرب لأخلاق الحيوانات.. مع التنبيه على أن الإنسان قد يكون أكثر انحطاطاً من معظم الحيوانات إذا نحن دققنا النظر.. فالحيوانات المفترسة مثل الأسود والنمور والطيور الجارحة كالنسور والصقور لا تقتل إلا مضطرة لتغذية نفسها، وتقتل فريسة واحدة ولا تزيد، فلم يحدث أن أباد الأسد قطيعاً من الغزلان عن بكرة أبيه.. إنما يأخذ حاجته لا أكثر. وإما الإنسان فإنه يقتل وهو ينوي لو أمكنته الفرصة أن يبيد عدوه إبادة تامة. ويشيع على ألسنة الناس أن فلاناً يجري وراء شهواته كأنه حيوان.. وفي هذا ظلم كبير للحيوانات، ومن له أبسط خبرة بعادات الحيوان سوف يكتشف أن الحيوانات لا تمارس الجنس إلا في أوقات محددة من السنة، وفي موسم التزاوج، ولا تعود إلى هذا الأمر إلا في الموسم التالي، وأما الإنسان فقدْ فقدَ هذا النظام الطبيعي، وبات يمارس الجنس طيلة الوقت، وفي كل فصول السنة، ومن ثم يُقارن بالحيوان! الحيوان أكثر نظاماً واحتشاماً من الإنسان. كما أننا لم نسمع أن الاغتصاب معمول به بين الطيور أو الزواحف أو التي تمشي على أربع، ولكن البشر يفعلون هذه الجريمة التي لا تخطر ببال حيوان! إن ما يحدث من شرور ليس بسبب الطبيعة البشرية، لأن "الغريزة" المُتأصلة في الإنسان أقل ضرراً بكثير مما نظن، ولكن "العقل" هو المتهم الأول في تجسيم هذه الشرور وتجسيدها على أرض الواقع.. صار الإنسان مُتّبعاً لأفكار تدور في عقله، وهذه الأفكار المنقولة إليه هو يتبعها حرفياً، مهملاً الجانب الأصيل في فطرته.
ماذا يفعل الأدب؟ إنه باختصار يعمل على إزاحة هذه الأفكار العدوانية التي تنتقل بين العقول كأنها مرض معدٍ، ويشفي الإنسان منها ويجعله أقرب ما يكون إلى فطرته التي فطره الله عليها. إن الإنسان الذي يقرأ الأدب سوف يجد نفسه بالتدريج وقد "تطهر" من الكراهية والضغينة ضد الآخر المختلف عنه، وأصبح أكثر معرفة بالمشترك الإنساني، وأن لكل نفس بشرية جوهرها الأصيل الذي مُنح لها من الخالق. هذه الاستقلالية مهمة، لأن لكل شخصية إنسانية طابعها الفردي الأصيل الذي ينبغي عليها أن تتمسك به.. والآداب والفنون يمكنها أن تساعد الإنسان المعاصر على الالتقاء بشخصيته الحقيقية الخالية من كل زيف، أي الزيف الذي نلبسه كغطاء على أجسادنا في الصبح والمساء لنواجه العالم بصورة ليس صورتنا، ولكنها صورة مستعارة من غيرنا، الذي بدوره استعارها من واحد آخر غيره، في سلسلة من التقليد الممسوخ الذي يهدم بناء الشخصية الأصيلة ويجعلها مجرد جدران تردد الصدى. يسعى رجال العقل، أي الذين لديهم رسالة عقلية، للتأثير على العقول وجعلها تتخذ موقفاً معيناً لم يكن لها في السابق.. والهدف النهائي هو السيطرة على العقول، وجعلها تؤمن بتلك الفكرة حصرياً. بينما يقوم الأدب بفعل مختلف: إنه يُبدد أية فكرة حصرية تسيطر على أذهاننا، ويذهب بنا إلى كون فسيح متنوع الأفكار يتسع لملايين التفاصيل التي تنال إعجابنا وليس بالضرورة أن نُقلدها أو نتبعها أو نتمسك بها ضداً عن رغبتنا. إننا نصادف هذه الوفرة المذهلة من الأفكار في الأدب الجاد في كل صفحة تقريباً، ومعظم الناس يستشهدون ببيت من الشعر أو مقولة من الأدب، أو مثل أو حكمة. وبالقياس فإن قراءة رواية فيها تحليل عميق للنفس البشرية، سوف تعمل على توسيع عقولنا، وكسر الفضاء المحدود الذي كانت محصورة فيه.
لقد لاحظت أن الأفكار ذات الصبغة العقلية، تُشكل قيوداً غير مرئية على الضمير البشري، وتجعله سجيناً غير قادر على الحركة. وفي هذه الحالة يصبح الإنسان جاهزاً للاستخدام من طرف السجان الذي سجن ضميره، ومن الممكن بسهولة أن ينفذ أية جرائم يطلب منه القيام بها.. ربما لنا في الفكر النازي المثال الواضح.
يمتلك الأدب الآلية الصحيحة لإطلاق الضمائر من سجونها، ويُمكن لكُتّاب من أمثال دستويفسكي وبروست وماركيز وشكسبير ونجيب محفوظ أن يُخلصوا البشر من وهم السجن العقلي الذي يتخيلونه، ويدركوا أن السجان الذي طالما نسجوا حوله الأساطير ليس سوى فقاعة صابون عمرها قصير جداً مقارنة بعمر الجبال أو الأرض أو الشمس أو الكون.
* الثورة نت