منذ توقيع المبادرة الخليجية في 23 نوفمبر من العام 2011م بالعاصمة السعودية الرياض، لم تكلف تلك الدول نفسها بشيء، وأوكلت الإشراف على المبادرة للأمم المتحدة التي انتدبت مبعوثاً لها في اليمن يُدعى جمال بنعمر.
على ما يبدو فقد كانت تلك الدول حريصة أكثر على أن يكون اسمها فقط حاضراً في الاتفاق بين أطراف اليمن، كونه البلد ذو الأكثر تأثيراً عليها سلباً أو إيجاباً، بحكم موقعه الجغرافي الذي يشكل البوابة الجنوبية لدول مجلس التعاون، وكانت مهملة، أو لنقل مفوضة للمجتمع الدولي، في تولي مراقبة سير تنفيذ العقد الخليجي بين اليمنيين.
صبيحة الـ21 من سبتمبر، العام المنصرم، أفاقت دول الخليج على صدمة لم تكن في حسبانها على الإطلاق، فقد أُسقطت مؤسسات الدولة في اليمن، واحتُلت العاصمة الرئيسية وأجزاء واسعة من مدن البلد المجاور، وباتت ميليشيات الحوثي المسلحة هي الآمر والناهي دون غيرها، وليس هذا فحسب، بل إن تلك الميليشيات تكن العداء الشديد للجيران علاوة على أنها ذراع مسلح لألد خصوم الخليجيين، وهي "الجمهورية الإسلامية الإيرانية".
وعلى وقع هذه الصدمة، التي كانت بمثابة الطعنة في الخاصرة، استشعرت الدول الخليجية الخطر المحدق الذي يحيط بها، وباتت تصوب أصابع الاتهام للمجتمع الدولي ممثلاً بجمال بنعمر، باعتباره المسؤول الأول على الإشراف على عملية الانتقال السياسي والرجل الوحيد الذي قاد عملية تضليل تلك الدول فيما يخص سير عملية التنفيذ.
بنعمر.. ومهمة بيع الوهم
يُلقي الخليجيون، الكثير من المسؤولية إن لم يكن كلها على هذا الرجل ذو الأصل المغاربي، فهو من باع الوهم بشأن التزام الأطراف اليمنية بتنفيذ بنود المبادرة الخليجية التي وقعت عليها كل الأطراف عدا جماعة الحوثيين المسلحة التي عبرت عن رفضها آنذاك.
يتهم الكثير من المحللين السياسيين ومسؤولين في دول الخليج، أثناء تصريحاتهم على الفضائيات وبقية وسائل الإعلام، المبعوث الأممي بالتسبب في هذه المكيدة لهم.
يستدلون على تهمتهم هذه، بأن بنعمر هو من أعطى الشرعية لميليشيات الحوثي، وأجهد نفسه في إقناعهم أن يكونوا طرفاً في المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية التي يرفضونها أساساً، ومنحهم نسبة في مؤتمر الحوار تمثل أضعافاً مضاعفة من وجودهم الحقيقي في المجتمع.
ولا يقتصر الأمر عند هذا الحد، فقد كان الحوثيون، الطرف الوحيد الذي يجلس على طاولة الحوار، وفي ذات الوقت يُنفذ أعمالاً مسلحة بغرض التوسع والسيطرة على مساحات جغرافية في البلاد، في حين كان المبعوث الأممي يوهم دول الإقليم أنها اشتباكات بين جماعات مسلحة فقط، ليقتصر دوره على إدانة ممارسة العنف.
بهذا الأسلوب كان بنعمر –كما يقول الخليجيون- يعطي الغطاء السياسي للحوثيين بالتوسع، ويدفع الدول الإقليمية والدولية من اتخاذ أي موقف مناهض، حين كان يصور نتائج ما يدور بأنه سيؤول إلى ضعف تلك الجماعات التي يوردها في تقاريره، والتي هي في الأساس خصوم لدول الخليج تحديداً.
ولكي يُخفي دوره وراء تشجيع انتشار الحوثيين، ويعزز نظرة الحيادية لديه، كان يُخصص ذكرهم، إلى جوار طرف آخر، في بعض تقاريره الدورية والمقدمة لمجلس الأمن، دون أن يدفع المجلس لاتخاذ إجراءات عقابية، وحتى حين يفعل ذلك، فهو يدفع لاتخاذ عقوبات لا تُنهي الجماعة المعرقلة.
دول الخليج من جهتها، تُدرك تماماً أن بنعمر لا يتصرف من تلقاء نفسه، وأنه مجرد سمسار لسياسة وتوجه دوليين، أوجده التقارب الإيراني والأمريكي الأخير، والذي يقضي بإيجاد وسيلة ضغط على الدول الخليجية من خلال تمكين الحوثيين المسلح على حدودها الجنوبية.
هادي ومحاولة اللعب على الحبلين
لطالما استطاع الرئيس هادي، المُعتكف حالياً في عدن، مخاتلة الخليج والمجتمع الدولي ونيل رضاهما وتأييدهما معاً، إلى أن أسقط الحوثيون حكمه وحاصروا منزله بسوء تقدير منه على الأرجح.
لكن الوضع الآن ليس كما كان على عهده في السابق، حيث أن الجانب الخليجي الذي كان مفوّضاً متابعة تطورات اليمن للأمم المتحدة، أصبح يحدد موقفاً مضادٍ لها، وبالتالي من الصعوبة أن تستمر في خداع الجانبين، وسيكون لزاماً عليك اتخاذ قرار يُفقدك أحد الأطراف.
ومع ذلك، فإن هادي لا ييأس، ويمارس هوايته في اللعب على الحبلين ومحاولة الاستحواذ على دعم الطرفين الإقليمي والدولي.
فهادي الذي غادر صنعاء ومارس صلاحيته كرئيس شرعي بناء على رغبة خليجية، لم يُصدر قرارات ويتخذ إجراءات ترفع الغطاء الشرعي عن الحوثيين، وهو ما يفسر مراعاته للرغبة الدولية التي تميل إلى عدم إنهاء سلطة الحوثيين في الوقت الحالي.
وهادي الذي كان فوض بنعمر في اختيار مكان الحوار؛ إرضاءً للأمم المتحدة، رضخ سريعاً لضغوط خليجية تقضي باختيار الرياض مقراً للقاء الأطراف اليمنية.
ولأن الرئيس شغوف بالسلطة، كما عرف عنه منذ توليه الحكم مطلع العام 2012، سيختار الطرف الذي يمنحه فترة أطول للحكم، وهو التوجه الآني لدول الخليج.
وعلى هذا الأساس فقد صعد هادي لهجته تجاه الأمم المتحدة أكثر من مرة، آخرها رفضه التام للحوارات التي يُشرف عليها جمال بنعمر في العاصمة صنعاء، وعدم اعترافه بها، حسبما نُقل عنه في إحدى لقاءات الرسمية بعدن.
وهنا يتبادر سؤال إلى الذهن، وهو أنه في حال اتفق الجانبان على استمراره في الحكم لكنهما يختلفان في توقيت إنهاء سلطة الحوثيين وأساليب ذلك، هل سيتمكن هادي من التوفيق بين إملاءات الخليج والمجتمع الدولي، أم أن أسلوبه هذا سيفقده ثقة الطرفين وبالتالي سقوط كرسيه.
الخلافات تطفو على السطح
بدا واضحاً أن بنعمر كان يعبر عن سياسات دولية، بدليل أن كل الدول العظمى خالفت مواقفها، عقب سقوط صنعاء وعقب مغادرة الرئيس هادي إلى عدن تحديداً، مع مواقف دول الخليج، إلى الحد الذي اتخذت فيه تلك الدول قرارات تقف على النقيض تماماً من قرارات دول الخليج.
فعند إذاعة الحوثيين لبيانهم الذي أسموه بـ«الإعلان الدستوري» والذي يمنحهم شرعية تفوق كل مؤسسات الدولة، أبدت دول الخليج اعتراضاً شديداً على هذا الإعلان، في حين صمتت الأمم المتحدة عن ذلك.
وكان المبعوث الأممي بنعمر، يجمع القوى السياسية وجماعة الحوثيين، على طاولة حوار واحدة لوضع خيارات ما بعد إعلان الحوثيين، أي أن الرئيس هادي والمؤسسات الشرعية الفاعلة في البلد، بات الإعلان الحوثي نافذاً عليها.
وتسبب إصرار بنعمر على هذا القرار، في انسحاب أحزاب سياسية مختلفة منها الحزب الناصري اليمني، الذي طلب قبيل الدخول في أي حوار سياسي، ضرورة رفض إعلان الحوثيين، والتحاور في مواضيع تسبق خيار الحوثيين هذا.
خلال فترة الإقامة الجبرية التي قضاها الرئيس هادي في منزله بالعاصمة صنعاء، كانت دول مجلس التعاون تطالب بالإفراج عنه وبإعادة شرعيته، فيما كان يقتصر دور مجلس الأمن في بيانات صدرت عنه خلال تلك الفترة، على مطالبة الحوثيين بسرعة رفع الإقامة الجبرية عنه، دون الإشارة إلى رغبتها في استمرار عمله كرئيس للجمهورية.
في الـ21 من فبراير الماضي، حين أفلت الرئيس هادي من قبضة الحوثيين وغادر إلى عدن، في عملية اشتُبه بوقوف المملكة العربية السعودية وراءها دون غيرها، كان واضحاً تفاجأ بنعمر بالحادثة ونفى نفياً قاطعاً أن يكون لهد دور في ذلك.
وعقب وصول الأخير إلى عدن، بادرت دول مجلس التعاون الخليجي إلى التأكيد على شرعيته، ودفعته إلى سحب استقالته التي كان قدمها للبرلمان اليمني في الـ22 من يناير الماضي، ووقفت إلى جواره لكي يستأنف أعماله كرئيس، وسط غموض في موقف مجلس الأمن والأمم المتحدة بشأن الشرعية واقتصارها على تهنئة هادي بالسلامة.
الرئيس هادي الذي اعتكف في عدن جنوبي اليمن، دعا السفارات الخليجية وسفارات بقية الدول العشر الراعية للمبادرة الخليجية إلى استئناف عملها من عدن، بيْد أن هذه الدعوة لم تلق قبولاً لدى الدول العظمى فيما بادرت الدول الخليجية الواحدة تلو الأخرى بالاعلان عن فتح سفاراتها في عدن.
الرئيس هادي أيضاً، سارع في سحب قرار كان قد اتخذه في لقاء مع بنعمر، ويقضي بتفويض الأخير باختيار مكان غير العاصمة صنعاء ليكون مقراً لحوار الأطراف السياسية وجماعة الحوثيين، واستبدل هذا القرار بدعوة الدول الخليجية إلى استضافة الحوار في العاصمة السعودية الرياض.
جريدة «العربي الجديد»، نقلت عن مصادر سياسية، الأسبوع الماضي، قولها إن ترتيبات الحوار في الرياض تُجرى على قدم وساق، وإن الأمانة العامة لمجلس التعاون حريصة على ألا يكون لبنعمر تدخلات فيه.
ربما الموقف الوحيد الذي اتفق فيه الطرفان هو إغلاق السفارات الدبلوماسية من العاصمة صنعاء، بغض النظر عن اختلاف الدوافع لهذا الإجراء، بين رغبة فرض العزلة على جماعة الحوثيين وهو دافع الخليجيين، وبين القلق من تدهور الوضع الأمني وهو دافع بقية الدول، كما ورد حينها في بلاغاتها الصحفية.
مجلس التعاون الخليجي، في اجتماع استثنائي عقده لمناقشة الوضع في اليمن، أقر تقديم مشروع قرار لمجلس الأمن يقضي بإنهاء انقلاب الحوثيين واتخاذ إجراءات عقابية ضدهم؛ لكن، ولأن مشروع القرار يتعارض مع توجه الدول العظمى فقد أصدرت قراراً أقل منه لهجة لم ينفذ هو الآخر، ولم يتولى مجلس الأمن معاقبة المعرقلين له، ليتضح أن الهدف من صدور القرار أساساً هو إرضاء الدول الخليجية وإيهاماً لها بتوحد القرار تجاه اليمن.
هذه نماذج فقط من المواقف، التي برزت فيها خلافات الجانبين حول الملف اليمني، وحدية الدول الخليجية تجاه تصرفات رعاة المبادرة الدوليين.
ختاماً
تندب دول الخليج الآن حظها العاثر في اليمن، وسوء تدبيرها حين سلمت البعير بما حمل لأمير غير مؤتمن، وتسعى –حالياً- للتكفير عن ذنبها ذلك بالعمل جاهدة على سحب البساط اليمني من تحت الهيمنة الدولية والتصرف بما تمليه عليها سياستها الخليجية ومصالحها العليا.