لا يعكس التعاون الأخير بين القاعدة، وتنظيم ما يسمى «داعش» في اليمن، تطوراً جديداً ولافتاً في البنية التنظيمية لما يسمى «الحركات الجهادية» التي ظهرت في المنطقة العربية قبل نحو ثلاثة عقود من الزمان فقط، وإنما يعكس في الوقت ذاته، حقيقة الأزمة التي يعاني منها اليمن منذ نحو خمس سنوات، التي حولته إلى ملعب مفتوح لقوى إقليمية ودولية عدة، قبل أن يفتح الاندماج بين التنظيمين الإرهابيين الأشهر في العالم، باب الفوضى على مصراعيه، ويجعل من الوصول إلى تسوية شاملة تعيد لليمن تماسكه واعتباره، مسألة شديدة الصعوبة والتعقيد في آن واحد.
يبدو اليمن اليوم أقرب ما يكون إلى لوحة فسيفساء محطمة، وهو التشبيه الأقرب لبلد تتجاذبه قوى محلية وإقليمية عدة، بينما لا يقدر على لم أوصاله.... فالحوثييون من جهة يواصلون عملهم بهمة من أجل صبغ مناطق نفوذهم بلون طائفي واحد، وما يسمى «الجماعات الجهادية» تسعى لفرض مزيد من الهيمنة على مناطق نفوذها، وصبغها بلون شديد الراديكالية من جهة أخرى، فيما المجتمع الدولي يترقب بحذر.
يطل «تنظيم القاعدة» كلاعب رئيسي في المشهد اليمني اليوم، وهو ظهور يستند إلى تاريخ قريب، حيث ظهرت «القاعدة» في اليمن لأول مرة مع بداية التسعينات، فيما عرف حينذاك باسم «الأفغان العرب».
كان استهداف جنود المارينز في عدن هو العملية الافتتاحية لسلسلة من العمليات الإرهابية التي نفذتها «القاعدة» في اليمن، التي استمرت لنحو عشر سنوات تالية، استهدف فيها التنظيم عشرات من السياح البريطانيين والأستراليين، قبل أن يفجر قنبلته المدوية بتفجير المدمرة الأمريكية «يو اس اس كول» في يناير من عام 2000، في عملية انتحارية أسفرت عن مقتل 17 من جنود المارينز على متن المدمرة التي كانت ترابط في ميناء عدن، ومن بعدها بست سنوات، ناقلة النفط الفرنسية «ليمبورج» في ميناء المكلا، غير أن تلك العمليات التي نفذها التنظيم، ظلت تراوح مكانها كعمليات انتحارية تنفذها مجموعات صغيرة، قبل أن يحصل التحول الأكبر في تاريخ القاعدة في اليمن، مع بداية عام 2009، بالإعلان عن دمج التنظيم بجناحيه اليمني والسعودي، في إطار تنظيمي موحد، تحت مسمى عملية «تنظيم القاعدة في جزيرة العرب».
على مدار سنوات، عزز «تنظيم القاعدة» تمركزه في اليمن، عبر التمدد والانتشار في العديد من بؤر التوتر، مستغلاً في ذلك تضاريس اليمن القاسية، ويقول كثير من المراقبين، إن «القاعدة» استفادت إلى حد كبير في تمددها وانتشارها في اليمن، من موجة الاضطرابات السياسية التي ضربت البلاد عقب اندلاع الثورة على حكم علي عبد الله صالح، وانشغال الجيش في بادئ الأمر بالصراع على السلطة.
وقد استغل التنظيم تلك الأوضاع في تعظيم نفوذه وتواجده في مدن يمنية عدة، خاصة في الجنوب، حتى نجح في السيطرة على بعض المناطق، وتحويلها إلى قواعد للتدريب على مختلف أنواع الأسلحة الخفيفة، بل وتجنيد مزيد من العناصر المستعدة للقتال، لأسباب قبلية واقتصادية أكثر منها عقدية، وقد لعبت كل هذه العوامل دوراً كبيراً في أن يكشر التنظيم عن أنيابه مستغلاً حالة الفوضى التي ضربت البلاد، ليكثف عملياته العسكرية ضد الجيش اليمني، مما أدى إلى سيطرته على مناطق عدة، دفعته قبل فترة إلى الإعلان عن قيام «إمارة إسلامية» في محافظة شبوة، بل والزحف تدريجياً باتجاه مضيق باب المندب.
لعب اختطاف الحوثيين للسلطة السياسية في اليمن، دوراً كبيراً في الصعود الكبير ل«تنظيم القاعدة» إلى صدارة المشهد في اليمن، خاصة أن التنظيم كان قد شهد تحولات كبرى منذ منتصف عام 2007، جرّاء انفتاحه على مجموعات جهادية أخرى، وانضمام عناصر جديدة له من مناطق عربية وإفريقية، مستغلاً في ذلك حالة الفوضى التي عمت اليمن عقب غياب سلطة الدولة، واشتعال الاقتتال الداخلي بين الحوثيين وقوات صالح من جهة، والمقاومة الشعبية التي تضم العديد من التنظيمات السياسية والشعبية، والموالين للرئيس هادي منصور من جهة أخرى، حيث نجح التنظيم خلال شهور معدودة في نسج شبكة من العلاقات المتينة مع رموز عدد كبير من القبائل السنية التي كان يزعجهم بشدة التمدد للحوثيين في مناطق عدة من البلاد، وهو ما مهد الأجواء أمام التنظيم لتجنيد مئات من المقاتلين الجدد من أبناء القبائل، وإمدادهم بالسلاح اللازم، بما فيه الأسلحة الثقيلة، التي كان قد نجح في الحصول عليها من معسكرات تابعة للجيش، بعد سقوط مدينة «المكلا».
أسهم الخطاب الطائفي الذي تنبته القاعدة، بشكل لافت في تحول اليمن خلال السنوات الخمس الماضية، إلى بؤرة جاذبة لعشرات من الفصائل الإرهابية التي ترفع رايات الجهاد، والسعي لإقامة «الخلافة الإسلامية» وفي مقدمتها «تنظيم داعش»، الذي أعلن عن أول ظهور حقيقي له في اليمن، بسلسلة من العمليات العسكرية، كان أبرزها: العمليتان الإرهابيتان اللتان استهدفتا مسجدي «بدر» و«الحشحوش» يوم الجمعة الموافق 21 مارس/آذار من العام الماضي، وأسفرتا عن سقوط أكثر من مئة قتيل من بينهم قيادات ميدانية ودينية لجماعة الحوثي، فضلاً عن مئات الجرحى، وقد مثلت تلك العملية في نظر كثير من المراقبين، أول تنسيق حقيقي بين «القاعدة» وتنظيم «داعش»، خاصة بعدما أعلنت الأولى في غير مناسبة أنها تخوض حربها ضد الحوثيين باعتبارهم شيعة، دفاعاً عن أهل السنة في العالم الإسلامي والعربي، وأنها تدعو أهل السنة في جميع أنحاء البلاد إلى حمل السلاح لدرء الخطر الشيعي عن المنطقة.
في فبراير/شباط من العام الماضي، بايعت فصائل عدة من القاعدة أبو بكر البغدادي، بعد نقض البيعة من زعيم القاعدة أيمن الظواهري، في تحول يؤشر لاندماج كبير بين التنظيمين المسلحين الأقوى في اليمن، وهو اندماج يستند إلى مرجعية فكرية واحدة، وإن اختلفت الاستراتيجيات في العمل على الأرض، ويمكن بقليل من الفهم إدراك المغزى الحقيقي من وراء هذا الاندماج، إذ يسعى كل تنظيم للاستفادة مما يملكه الآخر من مزايا، القاعدة بانتشارها الواسع بين القبائل ونفوذها التاريخي في اليمن من جهة، و«داعش» بما تملكه من خبرات عسكرية اكتسبتها من وجودها العملي في ميادين القتال بالعراق وسوريا وليبيا من جهة أخرى.
يؤشر الاندماج بين «القاعدة» و«داعش» في اليمن، في حقيقة الأمر، إلى تطور جديد ولافت في بنية ما يسمى «التنظيمات الجهادية»، وهو تطور يبدو أنه سوف ينتقل سريعاً إلى نقاط ساخنة عدة، في ضوء ما تناقلته وسائل إعلام مؤخراً، حول اتجاه التنظيمين للاندماج في ليبيا وتشكيل ما يسمى «مجلس شورى موحد»، كرد فعل سريع، على توقيع اتفاق الصخيرات في يناير الماضي، الذي انتهى إلى تشكيل حكومة للوفاق الوطني.
يبدو الوضع في اليمن الآن أقرب ما يكون إلى ساحة مفتوحة لصراع يمنح أطراف المعادلة على الأرض، قوة ونفوذاً جديدين، وإن ظلت الكفة تميل حتى اليوم، باتجاه جماعات العنف والإرهاب التي باتت تنتشر في مناطق عدة من اليمن، الذي لا يخفي مخاوفه من مستقبل غائم، خصوصاً بعد اندماج القاعدة و«داعش» في مواجهة الحوثيين، وهو ما يحتم على دول التحالف العربي أن تبدأ من جديد في ترتيب أوراقها السياسية والعسكرية معاً، استعداداً لمواجهة جديدة، ربما تطول لبعض الوقت، حتى تنجح في ترميم ما انكسر، واستئصال شأفة فوضى الإرهاب في بلد بات يثقل بالجراح والهواجس.
اليمن في مواجهة كوابيس المستقبل
(مندب برس-الخليج الاماراتية)