في إطار استراتيجية الردع، التي تبنتها المملكة العربية السعودية كأحد أهم استراتيجيات السياسة الخارجية السعودية الجديدة، جاء القرار السعودي بقطع المساعدات عن لبنان، لإجبار حزب الله اللبناني على التراجع عن سياساته العدائية وأنشطته الإرهابية، التي تزعزع أمن واستقرار المنطقة، بعد تحوله لأداة إيرانية في مخطط تطويق الرياض، فالقرار يحمل تبعات سياسة واقتصادية من المرجح أن تحدث تغيرًا نوعيًا في الداخل اللبناني، لتحجيم نفوذ حزب الله، أو نزع سلاحه ومراجعة العلاقة مع إيران، تحت ضغط الظروف الاقتصادية والعزلة السياسية المحدقة بلبنان.
فيما يرى مراقبون أن الرياض تستهدف تقليم أظافر حزب الله، والضغط على القوى السياسية والحكومة اللبنانية لتعديل مسارها وترجيح كفة المصالح العربية، وأن القرارات الخليجية مرهونة بتغيير السياسة اللبنانية، فالسعودية والخليج بالنهاية لن يتركوا لبنان لإيران وحزب الله، ولن يدعها تنهار اقتصاديًا، لأنه لن يصب في صالح الأمن القومي العربي، ومن ثم القرارات الخاصة بلبنان تشكل إلى حد كبير مناورة سياسية، وورقة ضغط مؤقتة ومشروطة، لكن المثير للقلق أن مواقف وتصريحات حزب الله وإيران ترجح عدم استسلامه، أو تراجعه عن سياساته في الأمد القريب.
كارثة اقتصادية
قال محمد شقير، رئيس غرفة التجارة والصناعة اللبنانية، إن بلاده مهددة بالمجاعة في حال استمرار تأزم العلاقات مع المملكة ودول الخليج، وطالب "شقير" حكومته بالاعتذار إلى السعودية "التي تشعر بأن لبنان طعنها من الخلف"، بحسب قوله في حديث مع محطة "MTV"، الجمعة، مضيفاً: "بالأمس عُرض فيديو يُظهر فريق لبناني يدرب الحوثيين في اليمن لمقاتلة السعودية، فهل نتوقع أن تتم ترقية اللبنانيين الذين يعملون هناك؟".
وشدد على أن "الآتي أسوأ بكثير؛ إذا تم إغلاق الحدود بين لبنان والخليج، لن تبقى هناك زراعة ولا مصنع يمكن أن يستمر، 75 % من الصادرات الزراعية إلى المملكة ودول الخليج، و53 % من الصادرات الصناعية".
ولفت "شقير" إلى خشية حكومة بلاده من المستقبل وما قد يحدث للبنانيين، وتداعيات ذلك على ما تبقى من الاقتصاد الوطني، قائلاً: "دول الخليج قد تلجأ إلى إقفال الحدود في وجه الصادرات اللبنانية، وفي حال لم تعتذر الحكومة؛ فإننا نتجه إلى كارثة اقتصادية لا يتحملها لبنان، وسنصل إلى مجاعة في لبنان. إذا استمر هذا الوضع، سنصل إلى أسوأ وضع اقتصادي عرفه تاريخ لبنان".
اختلال الأوضاع
بدوره تساءل تقرير نشره معهد واشنطن للدراسات، عن تداعيات تخلي السعودية عن التزاماتها تجاه لبنان، وأضاف التقرير الذي أعده مدير برنامج السياسة العربية في معهد واشنطن، ديفيد شينكر، إن كان انعكاس الإجراءات السعودية الأخيرة تجاه لبنان، سيؤدي إلى اختلال الأوضاع في بلد تحكمه الطائفي، بالرغم من أن التقرير يقلل من أهمية سحب الودائع السعودية من مصرف لبنان المركزي، فالودائع الخليجية هناك تبلغ أقل من مليار دولار، أو ما يعادل 2 في المائة تقريبًا من الاحتياطيات الأجنبية في بيروت، ويقلل من أهمية إلغاء المنحة المقدرة بـ(3) مليارات دولار للجيش اللبناني، لكن هذه الإجراءات إذا ما أضيفت إلى إجراءات خليجية وأمريكية أخرى، فإنها ستهز الوضع الاقتصادي بقوة.
اقتصاد هش
واستند التقرير في تحليله إلى حزمة من المؤشرات الاقتصادية، منها إصدار القانون الأمريكي الجديد "حظر التمويل الدولي عن «حزب الله» لعام 2015"، الذي يتخوف كثيرون في لبنان من أن يؤدي إلى زعزعة قطاع الخدمات المالية القوي في بلادهم. وتهدد هذه الإجراءات الأمريكية والسعودية مجتمعة، بشن عاصفة شديدة يُحتمل أن تهزّ أسس الاقتصاد اللبناني الهش أساسًا.
انهيار السياحة
بالإضافة لذلك يحمل تحذير السعوديين من السفر إلى لبنان تبعات حقيقية، خصوصًا أن الكويت والبحرين والإمارات سارت على خطى السعودية، ونصحت مواطنيها بعدم السفر إلى لبنان. ويساهم قطاع السياحة بنحو 7.5 في المائة من "إجمالي الناتج المحلي" اللبناني، وبلغت عائداته 3.5 مليار دولار في عام 2014. لكن هذا القطاع تضرر بشدة في السنوات الأخيرة، بسبب الحرب المجاورة وقدوم نحو 1.8 مليون لاجئ سوري إلى لبنان، حيث تراجعت الإيرادات بنسبة 10 في المائة في عام 2015 مقارنة بعام 2012. ومع ذلك، بقي لبنان الوجهة الأساسية للسياح الخليجيين في المنطقة- وقد أفاد هذا الواقع قطاع السياحة كثيرًا في لبنان، إلى أن صدرت تحذيرات السفر الأسبوع الماضي، بحسب التقرير نفسه.
البنوك وترحيل العمال
أغلق السعوديون فروع "البنك الأهلي" السعودي في بيروت، ولم يتبقَ سوى عدد قليل من فروع "البنك الوطني الكويتي" التي مازالت مفتوحة هناك. ولا شك أن مصارف أخرى ينتابها القلق من القيود المضنية التي يفرضها القانون الأمريكي الجديد، وقد يدفعها ذلك إلى إغلاق فروعها في لبنان أيضاً، كذلك انتشرت إشاعات عن بيع مواطنين خليجيين أثرياء لعقاراتهم الصيفية الفخمة في حمانا وبرمانا وجونية، ويترقب الكثير من اللبنانيين الآن الضربة الجديدة- أي ترحيل السعودية وغيرها من دول الخليج لمئات الآلاف من العمال اللبنانيين المغتربين لديها. ويساهم هؤلاء العمال بخمسة مليارات دولار من الإيرادات التي تصل إلى لبنان، أو ما يعادل 70 في المائة من التحويلات المالية إلى لبنان، ونحو 11 في المائة من "إجمالي الناتج المحلي" للبلاد.
إنذار أم ماذا؟
وختم التقرير بأنه "من السابق لأوانه الحكم على تداعيات هذه الإجراءات الاقتصادية والسياسية: فهل هي إنذار سعودي للبنان لكي يتخذ حذره بصورة أكثر في علاقته مع كل من طهران والرياض، أم هي المرحلة الأولى من إعادة تموضع خليجي كامل بعيدًا عن المشروع اللبناني؟ إن المسار الحالي يظهر أن السعودية تتجه نحو تخفيض دورها في لبنان، الأمر الذي من شأنه أن يترك البلاد تحت رحمة إيران و«حزب الله» أكثر من أي وقت مضى".
كانت طهران قد دخلت على خط الأزمة بين لبنان وعدد من الدول الخليجية، إذ أعلنت استعدادها لتوفير ما وصفتها بـ"المساعدات" للجانب اللبناني، بحال طلبت الحكومة في بيروت ذلك.
بدورها أكدت السعودية في أعقاب اجتماع لمجلس وزرائها انعقد برئاسة الملك سلمان بن عبدالعزيز، عدم استعدادها للتخلي عن لبنان، وشدّد في بيان له على الاستمرار في مؤازرة الشعب اللبناني بكافة طوائفه، وعدم التخلّي عنه.