د. صبحي حديدي
قبل أن يتخذ التدخل العسكري البرّي المحدود، في اليمن، نطاقاً أوسع، ويكتسب الحدّ الأدنى من العناصر اللائقة به، سياسياً وليس عسكرياً فقط؛ شاءت المملكة العربية السعودية، راعية التدخل، أن تعلن «هدنة إنسانية» قصيرة الأمد، أقصاها خمسة أيام. وفي العاصمة الفرنسية، باريس، حيث اجتماع وزراء خارجية دول الخليج، التقى وزير الخارجية السعودي الجديد عادل الجبير، مع نظيره الأمريكي جون كيري، فاتفقا على أنّ نجاح هذه الهدنة يعتمد على التزام الحوثيين.
هذا صحيح، بالطبع، ما خلا أنه ثُلث الحقيقة، ليس أكثر؛ فالهدنة هذه، وأيّ طراز من الحلول الأخرى، قصيرة كانت أم طويلة، وعلاجية مؤقتة أم جذرية دائمة، إنما تعتمد على ثُلثيَن آخرين في معادلة المأساة اليمنية الراهنة: المخلوع علي عبد الله صالح، وحصّته في اقتسام الكعكة، التي صارت دامية تماماً؛ وطهران، أو الجناح التوسعي العسكري والمذهبي الأهوج في السلطة الإيرانية، وأذرعها الضاربة في المنطقة. كلا الثلثين كان في أساس صعود الحوثيين، وبلوغهم هذه المرتبة من التأثير السياسي والعسكري في مصير اليمن؛ وكلا الثلثين يمكن أن يسحب الغطاء عن الحوثيين، سريعاً وعلى نحو فاعل، بل قاتل أيضاً.
هنا تؤوب أصول المعادلة إلى الدور السعودي ذاته، على غرار الـ»بوميرانغ» الذي لا يحلّق ويعلو ويهبط ويلتفّ، إلا لكي يرتدّ إلى نقطة الانطلاق: سكوت الرياض عن تصعيد الحوثيين، بعد احتضان علي عبد الله صالح نفسه، من باب تلك «الفلسفة» السياسية التي نُصح بها العاهل السعودي الراحل عبد الله بن عبد العزيز، والتي أفادت بأنّ عدوّ الإخوان المسلمين والإسلاميين والجهاديين، أي الحوثيّ في هذا المثال، هو صديق المملكة؛ مؤقتاً،
غنيّ عن القول، ولكن لا بأس بما ستأتي به صيغة العدو/الصديق هذه من مكاسب، حتى إذا جلبت الدبّ الإيراني إلى كروم اليمن السعيد، على مرمى حجر من الحدود السعودية، الطويلة والمتعرجة، ذات التضاريس الشاقة.
اليوم تبدلت نقطة الانطلاق تلك، كما بات جلياً، واعتمد الملك السعودي الجديد «فلسفة» أخرى، ليست أقلّ ذرائعية من خيارات أخيه غير الشقيق، ولكنها أكثر إدراكاً لمخاطر استدخال الدب الإيراني، وأشدّ تسليماً بأنّ موازين الأرباح والخسائر قد لا تنتهي لصالح المملكة، بل لعلها لن تسفر حتى عن التعادل!
يُضاف إلى هذا أنّ جديد الملك سلمان بن عبد العزيز يقتضي، أيضاً، توسيع القوس إقليمياً، نحو تركيا رجب طيب أردوغان، أوّلاً؛ وفي مناطق تنامي النفوذ الإيراني، في سوريا أساساً؛ ثمّ «عَقْلَنة» حلفاء الفلسفة السابقة، في مصر عبد الفتاح السيسي، بادىء ذي بدء، من حيث إعادة غربلة الموقف من الإخوان المسلمين، وفرز الحنطة عن الزؤان.
فإذا جاز القول إنها فلسفة تتكئ على اصطفاف القوى، إقليمياً، مع توسّع النفوذ الإيراني أو ضدّه؛ وأنّ الكفة في هذا راجحة للمملكة، بصرف النظر عن صدق نوايا الأنظمة والقوى التي انخرطت في «عاصفة الحزم»، عملياً أو لفظياً، والقوى التي اكتفت بالتعاطف لأنها معنية بمناهضة المشروع الإيراني؛ فإنّ ثلاثة اسئلة كبرى تُطرح هنا: هل ينقلب اليمن إلى قضية خليجية صرفة، في المقام الأوّل، تجيز تطوير الجهد العسكري السعودي الراهن إلى تدخّل برّي شامل وحاسم، بموجب اتفاقية الدفاع المشترك ضمن مجلس التعاون الخليجي؟ وهل ثمة غطاء دولي، أمريكي تحديداً، لخيار كهذا؟ وما ردّ إيران، كيف وأين؟
صحيح أنّ كيري كان في باريس لإحياء الذكرى السبعين لاستسلام ألمانيا النازية وطيّ صفحة الحرب العالمية الثانية، وأنّ الجبير كان يحضر اجتماع نظرائه الخليجيين؛ إلا أنّ المصادفات قد تكون أحياناً أشدّ جدوى من المواعيد المرتبة، كما في القول الشهير: ربّ صدفة…!
المصدر | القدس العربي