د. أحمد عبد الواحد الزنداني
في إطار الفوضى الدولية التي يعيشها العالم منذ انفراد الغرب بإدارة النظام الدولي بأسلوب أُحادي أو بنظام القطب الواحد منذ انتهاء الحرب الباردة، ظهرت الكثير من الصراعات في العديد من دول العالم، وانتقلت تلك الصراعات من صراعات بين الدول إلى صراعات داخل الدول؛ نتيجة وضعها على مسار إجباري في عملية تكييف مع النظام الدولي الجديد، كاستجابة لضغوط الدول الغربية المهولة لإعادة صياغة العالم وفق مفاهيم سياسية واقتصادية وثقافية واجتماعية تتناسب ورؤية الدول الغربية لما ينبغي أن يكون عليه عالم ما بعد الحرب الباردة.
اليمن إحدى الدول التي تخوض هذا الصراع الذي تظهر ملامحه على الساحة السياسية اليمنية بشكل جلي وفريد من نوعه، وتفرُّد اليمن القابع في جنوب شبه الجزيرة العربية يعود لكون اليمن الدولة الوحيدة تقريباً التي كان للشعب اليمني، كشعب عربي مسلم محافظ، دور بارز في إدارة الدولة والمجتمع، من خلال مركزي قوى لهما ثقلهما في المجتمع اليمني؛ وهما علماء البلاد وقبائلها، وهما القوتان اللتان ارتكزت عليهما الحركة الإسلامية في اليمن منذ مجيء العلامة الجزائري الفضيل الورتلاني إلى اليمن مبعوثاً من الإمام حسن البنا في العام 1947م، لتوحيد صفوف اليمنيين ولم شملهم على مبادئ الإسلام؛ لمقاومة المد القومي الذي غزا المنطقة العربية منذ مطلع القرن العشرين بعد سقوط الدولة العثمانية، وكذلك لتولي الشأن اليمني بعد حركة التغيير التي بدأت تدُب في المنطقة، ومعالم الاحتقان التي ظهرت ضد حاكم اليمن الإمام يحيى بن حميد الدين .
ولقد اقتنص العلماء والقبائل الفرصة منذ سبعينات القرن الماضي لتغذية مؤسسات الدولة، المدنية والعسكرية، بكوادر ذات ولاءات شرعية وشعبية، بعد أن حظي العلماء والقبيلة بدعم حكومي وإقليمي ودولي بهدف الاستعانة بهم لمواجهة المد الشيوعي في مطلع السبعينات الذي أسقط جنوب اليمن في براثن الكتلة الشيوعية بقيادة الاتحاد السوفييتي، وبات يشكل خطراً كبيراً على شبه الجزيرة العربية، وكذلك لمواجهة المد الشيعي بعد الثورة الإيرانية باسم تصدير الثورة إلى المنطقة العربية في مطلع الثمانينات، وأيضاً تمثلت الحاجة إلى العلماء والقبيلة في اليمن بمد الجهاد الأفغاني بالدعم لتحرير أفغانستان من الاحتلال السوفييتي، وهو ما سيؤمن للغرب وقف الزحف السوفييتي من الاقتراب من المياه الدافئة في "الشرق الأوسط"، مركز المخزون الاستراتيجي لنفط العالم، ومنذ مطلع التسعينات وإعادة الوحدة اليمنية على أُسس ديمقراطية، تم إقرار التعددية السياسية وحرية التعبير وحق التجمع والتنظيم، وكان للعلماء والقبيلة دور بارز في العمل السياسي، إذ كان لهم دور كبير في إنشاء وقيادة حزب التجمع اليمني للإصلاح، الذي يتمتع بجماهير غفيرة بفضل التأييد الشعبي الجارف لكبار العلماء ولزعماء القبائل.
كل تلك المتغيرات مكّنت العلماء في اليمن، ومن خلفهم القبيلة اليمنية، من صياغة المجتمع اليمني صياغة تكاد تكون مختلفة عن غيره من دول العالم، ولقد ظهر ذلك جلياً في الوثائق الدستورية والقانونية ذات الطابع الإسلامي، وفي مناهج التعليم، ومظاهر الحياة في المجتمع اليمني، إذ إن العادات والتقاليد والأعراف المحافظة هي التي تغلب على سلوك اليمنيين وحياتهم الاجتماعية إلى اليوم، وانعكست تلك الصياغة على مواقف الشعب اليمني الداعمة للقضية الفلسطينية والمناوئة للتدخل الأجنبي، العسكري والناعم، وتحولت اليمن إلى معمل لإنتاج المجاهدين والدعاة، فكان اليمنيون يحملون علم الجهاد في أفغانستان، كما ذُكر سابقاً، وفي البوسنة والهرسك وفي العراق، وحيثما فتح باب للجهاد، وكانوا أيضاً يحملون علم الدعوة في كثير من دول العالم، وعلى رأسها الدول الأوربية، لنشر الإسلام ولا يزالون.
وفي خضم الأحداث التي استقر معها نظام القطب الواحد لإدارة العالم، كانت الحركة الإسلامية في اليمن على موعد مع صراع طويل وجديد، وهو الصراع مع عملية التكييف التي يقودها الغرب لإعادة صياغة العالم وفقاً لمنظوره وتصوراته ومصالحه، فالقناع الجميل لليبرالية العالمية المتمثل باحترام الحرية والتسامح وحقوق الإنسان، وهو تنازل قدمته الحضارة الغربية اقتضاه صراع الحرب الباردة، قد زال ليكشف عن أيديولوجية عنيفة، لها أبعاد متكاملة ومتعاضدة تعتبر العالم بأسره مجالاً لها، وهذه الأيديولوجية تتمثل في تزاوج الليبرالية الرأسمالية مع المسيحية الصهيونية، تزاوج ولد من رحم الثقافة الغربية وعبر عن نفسه في عملية أُسميت بالعولمة، وهي عملية تضع الغرب في كفة والشعوب الأخرى في الكفة المقابلة (The West Versus the Rest)؛ بهدف فرض الثقافة الغربية على شعوب العالم لتحقيق أهداف استراتيجية، في عودة واضحة لمهمة الرجل الأبيض (White Man's Mission) التي بررت حقبة الاستعمار لردح من الزمان ذاقت البشرية فيها الويلات.
وبعد ما يقرب من عقد من الزمان على اجتياح العولمة للعالم، صنف الخبراء المؤثرون على عملية صناعة القرار في الغرب، المنطقة العربية بأنها منطقة غير مُندمجة في النظام الدولي (Non-Integrated Gap)؛ لأنها استعصت على اجتياح العولمة؛ أي إنها لم تستجب للتحول الثقافي أو التغريب وظلت شعوبها متمسكة بثقافتها، ولذا لا بد من اجتياحها بالوسائل الناعمة، وإذا لزم الأمر، بالوسائل العسكرية.
بالنسبة لليمن، فإن هذا التوجه الغربي قسم القوى المحلية إلى عدة قوى سياسية وإلى تيارات سياسة داخل تلك القوى ظلت تعترك فيما بينها وفي داخل كل منها، بين مؤيد للتغيير الثقافي وبين مناوئ له، منذ مطلع التسعينات إلى أن قامت الثورات العربية الأخيرة، ولم يكن ذلك الانقسام قد لحق بجموع الشعب التي ظلت بالجملة متعلقة بالعلماء والقبيلة، وكان العلماء، الذين يحظون بدعم القبيلة، يتصدون لكل محاولات التغريب والتحول الثقافي؛ فلقد كانوا، على سبيل المثال، وراء صمود الدولة في وجه حركة الانفصال التي تبناها الحزب الاشتراكي اليمني في العام 1994م، والتي غازل بها الغرب بدعوى رغبته في بناء دولة مدنية علمانية في جنوب اليمن؛ بحجة أن اليمن الشمالي رجعي قبلي همجي لا يرضى بالحداثة كحال الجنوب المتحضر!!! لكن تبددت آمال الحزب الاشتراكي بعد أن حُسمت الحرب الأهلية لعام 1994م لصالح الدولة ووحدتها، كما تصدى العلماء لأمور كثيرة؛ منها بعض محاولات النخب العلمانية للتطبيع مع الكيان الصهيوني، ولمحاولات تمرير مشاريع قوانين مخالفة للإسلام، وتصدوا أيضاً لمحاولات إنشاء القواعد العسكرية الأجنبية في البلاد ولغيرها من الأمور.
بعدها ركز الغرب على ضرب الحركة الإسلامية من الداخل، بحيث يحاصر العلماء والقبيلة، ويمكن لتيار سياسي طموح للقيادة وغير عقائدي يمكن التحكم بمساره عن طريق برامج مدروسة وبوسائل متعددة وتحالفات متشعبة، من خلال التمويل والتدريب والتوجيه بطرق غير مباشرة بسياسات ناعمة وشعارات زائفة كمحاربة الإرهاب، وتأييد الديمقراطية وحقوق المرأة، والتغني بالحقوق والحريات وبتأسيس الدولة المدنية الحديثة، ودعاية مُمنهجة (Propaganda) وفق برنامج أسماه الغرب كسب القلوب والعقول (Win Hearts and Minds)، وهذه المفاهيم هي التي مكّنت الأحزاب العلمانية من إدماج الحركة الحوثية في النسيج السياسي اليمني، بمباركة التيار السياسي في الحركة الإسلامية الذي بات مقتنعاً بالدولة المدنية التي تضم جميع التوجهات الفكرية والعقائدية، وما إن تمكّنت الحركة الحوثية حتى قلبت ظهر المجن واحتلت العاصمة وفرضت أمراً واقعاً جديداً.
والنتيجة ما نراه ونلمسه اليوم في اليمن؛ كُسرت القبيلة اليمنية وحوصر العلماء، والدولة إلى انهيار، ويبقى الخاسر الأكبر الشعب اليمني الذي جُر إلى حوار وطني برعاية أمريكية تنزع حاكمية الشريعة الإسلامية من القوانين اليمنية، وتُقر تقسيم البلاد إلى أقاليم على غرار الأقاليم العراقية، وسلبت اليمن السيادة الوطنية بدعوى الشراكة مع المؤسسات الدولية، كل ذلك بموجب نصوص مخرجات الحوار الوطني الذي تدعمه القوى المحلية والإقليمية والدولية كحل لأمر واقع صنعه الغرب في اليمن، وبات يُقدم على أنه الحل لخروج اليمن من أزمته المدمرة، ولله في خلقه شؤون.
/الخليج اونلاين/