فؤاد الحميري
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
السلالية مشروع المستقبل :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
السلالة هي ( الكلمة المفتاح ) في كل ما حصل ويحصل في مسار البلد خلال العقود الأخيرة من حكم ( صالح ). وبتسليط الضوء عليها سيتضح لنا الكثير مما يُعتقد ضبابيته , وينكشف الأكثر ـ فيما أزعم ـ مما يُظن غرابته .
فلم يكن الإرث السلالي الممتد غابرا في الزمان من قحطان , مروراً بإرث الألف عام الأقرب عهداً , والأشرس طبعاً , من عدنان . وما نحته هذا الميراث في جسد اليمن ونسيجه الاجتماعي خلال قرون من الصراع , لم يكن يمثل للرجل إلا إغراءً بقيمة وأهمية السلالية كمشروع مستقبلي يستطيع من خلاله الاحتفاظ بالسلطة والثروة . والانتقال بهما من الاستئثار الفردي إلى التوريث الأسري .
كان (صالح ) لا يفتأ يذكر السلالية في كل خطاب من خطاباته كلها أو جلها . ذامّا , وقادحا , ومحذرا , ومنبها , وما كان في الحقيقة إلا مذكّرا بها , محييا لها , محافظا على زخمها في اللاوعي الجمعي . وبينما كان أكثر الناس ذكاء يرى في كثرة حديث ( صالح ) عن السلالية والسلاليين مجرد هروب من استحقاقات المرحلة باستجرار معارك ماضوية , كان الرجل أبعد غرضا , وأعمق هدفا .
لاحظ صالح نجاحه في إحياء واستثمار الفكر السلالي في النسيج اليمني ورأى كيف أن الكثيرين ممن حوله بوعي وبغير وعي صاروا يبحثون ـ رغم أنهم من علية القوم وكبرائها سياسياً واقتصادياً بل واجتماعياً أيضاً ـ عن نسب ( يرفع خسيستهم ) أو صهر . وأدرك أن العقدة مستحكمة . وأن قليل من الزيت كاف لإشعال المعركة الأخيرة , معركة المشروعية السلالية القحطانية التي تبحث عن ممثلها الشرعي والوحيد . وهو ما كان أعدّ له نفسه , وحضّر له أسرته , ومنّى به سلالته , وجنّد لأجله دائرة المصالح السابحة في فلكه . وعمّق أخاديده بإشعال الحروب المتوالية استعداداً للإعلان الرسمي عنه . والذي بقي موجلاً حتى انتخابات 2006م .
( قلْع العدّاد ) بداية المشروع :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كان لانتخابات 2006م وقع الصدمة على ( صالح ) إذ مثلت أول اختبار حقيقي سقط فيه سقوطا مدويا ـ بحسب إفادة اللواء علي محسن الأحمر الشهيرة ـ وجعلته يشعر أنه بات أبعد مما كان يعتقد قربه . وأن كثير من رهاناته لم تبن على اساس صحيح . خاصة فيما يتعلق بإرادة الشعب التي يبدو أنها لم تخطر له على بال في كل سيناريوهاته المُعّدة . وبدلا من إعادة التفكير باتجاه صحيح , كان قرار ( صالح ) هو الاستمرار في الطريق الخطأ . والمضي في طريق السلالية كمشروعية جديدة تخفف عنه أثقال الديمقراطية عبر ما سُمي حينها ( قلع العداد ) .
( قلع العداد ) ـ إذاً ـ لم يكن مجرد تعبير اصطلاحي للتعبير عن الوصول إلى قمة الاحتقان السياسي اليمني يومذاك ـ كما كان يرى الكثيرون ـ بقدر ما كان اعلانا متأخراً عن مشروع سلالي جديد يستنزف ( دم المشروعية ) لصالح ( مشروعية الدم ) . وهو متأخر من حيث الإعلان عنه , متقدم جدا من حيث الإعداد له . ورغم دلالاته الظاهرة على نية الانتقال بالمشروعية السياسية على الوجه الذي ذكرنا إلا أنه كمصطلح سياسي ظل بعيداً عن أي عبارة أو إشارة تومئ إلى القحطانية أو الحميرية أو تتحدث عن ملَك أو تُبّع .
ثورة فبراير وتهافت المشروع :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بعد مضي ثلاثة عقود من حكمه لليمن أصبح واضحا أن ( صالح ) لم يعد بإمكانه أبدا التغريد خارج سرب السلطة أو السباحة ضد تيارها . فهو منها , وإليها . وهي حقه , وملك يمينه . والقول بغير ذلك ضرب من الجنون لا يقابل إلا بما هو أكثر منه جنونا . الأمر الذي جعل من تفجر ثورة الـ11 من فبراير 2011م زلزالا حقيقياً زلزل كل موازينه أو كاد . وجعلته وبسرعة يبحث له عن مداميك أكثر عراقة تعيد له ثقته بنفسه , وبقدرته على الاستمرار حاكما مطلقا , وملكا مطاعا .
وإذا لم تكن 33 سنة قد أسست ـ نفسياً ـ لدى اليمنيين لحالة من القبول بسلالة ملكية جديدة فلا بد إذاً من النبش في الماضي سريعاً , والبحث عن عروق قديمة تؤكد الصلة , وتوثق العهد من جهة , وتتناغم مع الفكرة السلالية التي ما انفك يعمل ومنذ فترة غير قصيرة على دعمها وتأصيلها لتكون بوابته القادمة لعالم الخلود .
ولادة الملك الحميري :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
" سيكون حمام دم .. ستجري الدماء إلى الركب .. ألا تعلمون من أنا .. أنا علي عبدالله صالح الحميري من نسل سيف بن ذي يزن " بهذه الكلمات الموجهة لوفد علماء ومشايخ اليمن المطالبين بالتغيير ـ حسب إفادة الشيخ عبدالمجيد الزنداني رئيس جامعة الإيمان المتحدث باسم الوفد يومذاك ـ يكون ( صالح ) قد أعلن رسميا ولأول مرة عن مساره السلالي منسلخاً بالكلية من كونه رئيساً يمنياً إلى كونه تبّعا حميريا . وهو إعلان كان له جذوره كما أسلفنا .
وفي سؤال قيصر الروم لأبي سفيان عن محمد (ص) " وسألتك : هل كان من آبائه من ملك ؟ فزعمت أن لا . فقلت : لو كان من آبائه ملك قلت يطلب ملك آبائه " . فسُنّة الملوك عبر الزمان , والمكان , طلب الملك , والبحث عنه , والاستبسال في سبيله . وهو ما كان ينقص (صالح ) ويرى أنه بحاجة إليه ليجمع إلى ما يراه حقا بحكم عقود حكمه المتعاقبة حقا آخر تاريخيا يخوله ـ أمام نفسه وسلالته ودائرة مصالحة ـ مقاومة التغيير المنشود . كما يسمح له ـ عبر سياسات التجهيل الممنهجة التي مارسها طيلة فترات حكمه ـ بإحداث اختراق في اللاوعي الشعبي لصالح فكرة الحاكم القومي , والسلالة القحطانية . فكانت فكرة ( علي عبدالله صالح عفاش الحميري نسل سيف بن ذي يزن ) وبعيدا عن حقيقة هذه النسبة من عدمها فمن المؤكد ـ وهو الأهم ـ أن الرجل كان يعيش الدور فعلاً . لا من خلال تسميته لبعض أحفاده بأسماء حميرية مثلاً , وليس عبر التحضيرات السياسية , والعسكرية , وقبل ذلك التجهيل العلمي , والثقافي فقط , بل ومن خلال دعمه المغدق لفكرة السلالة العدنانية تحديدا وتنظيمها وتزويدها بالمال والسلاح ـ كبعبع لا أكثر ـ يجعل منه ـ أي ( صالح ) ـ الخيار الأكثر قومية لدى اليمنيين عند المقارنة أو ربما المواجهة إن لزم الأمر .
لماذا ابن ذي يزن ؟!
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
كان بإمكان (صالح) البحث عن أي نسب حميري يحقق له مقصوده في مزعوم الحق التاريخي الذي يريد ولكنه في لحظة ما لم يجد أمامه سوى أسم واحد هو سيف بن ذي يزن .
لا اعتقد أن هذا الاسم كان مطروحا بشكل جدي في ذاكرة الرجل وهو يعد العدة لحكمه السلالي المأمول وإنما جاء في سياق ردة الفعل المفاجئة على انكشاف مخططاته وسقوط مشروعه التوريثي في 2011م معلنا به عن استراتيجية جديدة في التعامل مع الماضي وإعادة تشكيله لصياغة تحالفات مستقبلية قوامها الانتقام والملك معاً ـ فهو بتلك الحالة التُبّعية التي تسكنه ـ لا بد وأن يفعل كل شيء . ويستعين حتى بالشيطان . ليعيد لنفسه وسلالته ( حقها التاريخي ) ـ الذي لا زال يعتقد ـ بحكم نرجسيته المفرطة ـ أن دول الجوار وليس الشعب من نزعها منه . مستلهماً قول طالبِ ملكٍ قبله :
سنعيد الإمام للحكم يوما .... بثياب النبي أو ثوب ماركس
فإذا خابت الحجـــاز ونجــد ... فلنا إخـــوة كــرام بفــارس
وهنا يخرج سيف بن ذي يزن ( بائع اليمن للفرس ) من كونه مجرد نسب تاريخي ينتحله الرجل إلى رمز لخارطة طريق جديدة نحو الانتقام والملك . الانتقام من دول الخليج ببيع اليمن لإيران , والانتقام من خصومة الداخليين ببيعهم للحوثيين . ثم الحصول على الملك الجزئي وفق اتفاق تقاسم بين سلطتين زمانية ودينية على طريقة ( الملالي ) وبعملية إسقاط تاريخي تترجم سياسياً حادثة ( تهنئة قريش لذي يزن بالملك وتبشير الأخير لها بالنبوة ) . أو ترقب المُلك الكلي بسقوط الأطراف المختلفة في صراع يعتقد أنه من سيقف أخيرا على تلة خرابها مقهقها .