محمد جميح

نحو إعادة تعريف «الأكثرية» و«الأقلية»

محمد جميح
الخميس ، ٢٠ فبراير ٢٠٢٥ الساعة ٠٤:٢٠ مساءً

أريد لمصطلحي: «أكثرية» و «أقلية» – في البلدان العربية والإسلامية – أن يُشحنا بمفهومين يقومان على أسس طائفية وعرقية، كي يتم الحديث عن «أكثرية» سنية وأقليات: شيعية ومسيحية، وعن «أكثرية عربية» وأقليات: كردية، وأمازيغية، وآشورية، وغيرها. هذا تقسيم مناسب لسياسات التقسيم، ومحبب لدى المستفيدين من الصراعات البينية، وهو المسؤول ـ ضمن عوامل أخرى ـ عن الصراعات الأهلية التي ضربت ـ ولا تزال تضرب ـ عددا من البلدان العربية التي سقطت في دوامة الحروب الأهلية التي كلفتها فواتير بشرية ومادية وروحية ثقيلة. دعونا نثير السؤال التالي: هل يتم الحديث عن أقليات ويلزية أو اسكتلندية أو أيرلندية أو أقليات كاثوليكية أو يهودية في المملكة المتحدة، مثلاً؟ هل يثار حديث عن أقلية وأكثرية، في الولايات المتحدة أو أوروبا؟ الحديث عن الأقليات في الدول الغربية ينصرف للأقليات العرقية والدينية المهاجرة، ولا يتم الحديث عن الأقليات الدينية إلا فيما يخص «الأقلية المسلمة» غالباً، ويتم الحديث عن الأقليات العربية والآسيوية والسوداء، أما البيض، فغالباً لا يتم الحديث عن أقليات عرقية أو دينية بيضاء، مع وجود تلك الأقليات في تلك المجتمعات، مثل الآيرلنديين الذين هم أقلية في المملكة المتحدة، إلا أنه لا يتم الحديث عن أنهم أقلية، رغم أنهم مختلفون طائفياً وعرقياً ولغوياً وثقافياً. لماذا ـ إذن ـ لا تثار مسألة الأقليات الغربية البيضاء في الإعلام الغربي والدولي؟! لماذا يراد اعتماد المحددات العرقية والدينية عند الحديث عن الأقليات في البلدان العربية والإسلامية، ولكن لا يتم اعتماد هذه المعايير في الغرب إلا فيما يخص الأقليات المهاجرة، والمسلمة منها على وجه التحديد، فيما يتم الحديث دائماً عن الأقليات الدينية والعرقية، في الشرق العربي المسلم؟ بطبيعة الحال، لا يمكن مقارنة أوضاع الأقليات في البلدان العربية والإسلامية بأوضاع الأقليات في البلدان الغربية، وهذا سبب من أسباب عدم بروز عناوين كبيرة تخص الأقليات في الغرب، كما هي الحال في الشرق، لكن هذا ليس السبب الوحيد، إذ يبدو أن عدم إبراز عناوين الأقليات الدينية والعرقية في المجتمعات الغربية سياسة متبعة، وكأن التصنيف الديني والعرقي للأكثريات والأقليات سمة سالبة لا يجوز اعتمادها عند توصيف مجموعة ما بأنها أكثرية أو أقلية، سمة يمكن أن تكون سائدة في المجتمعات الأقل تحضراً، لكن لا يصح الحديث عنها، ضمن سياقات الحضارة الغربية التي تعد «أرقى ما وصلت إليه المجتمعات البشرية سياسياً وثقافياً واقتصاديا وعلمياً» حسب فلسفة نهاية التاريخ. ولكن كيف يتم التعامل مع مصطلحي: «أكثرية» و«أقلية» في الغرب؟ أو ما هي المحددات التي تصنف الأكثرية والأقلية، وفقاً لها؟ رغم وجود أكثريات وأقليات في الغرب إلا أن أغلب ما يتم الحديث عنه فيما يخص هذا الموضوع هو الحديث عن الأكثرية والأقلية على أسس سياسية، لا عرقية ولا دينية، كأن يقال «الأكثرية الجمهورية» و«الأقلية الديمقراطية» في مجلسي الشيوخ والنواب اللذين يشكلان الكونغرس الأمريكي، أو «الأكثرية العمالية» و«الأقلية المحافظة» في البرلمان البريطاني، على سبيل المثال. وهنا نرى أدياناً وأعراقاً وألواناً وثقافات مختلفة ضمن الأكثرية والأقلية التي لا تعدو كونها أكثريات وأقليات سياسية. وفي البلدان العربية والإسلامية يكمن المخرج من مأزق ثنائية الأكثرية/الأقلية في التحول من اعتماد العرق والطائفة أو الدين كمعايير في تصنيف الأكثريات والأقليات إلى اعتماد صناديق الانتخابات كمحددات لهذا التصنيف. وهذا بالطبع لن يلغي وجود الأقليات العرقية والدينية، ولكنه سيعيد تعريف الأكثرية والأقلية، على المستوى السياسي، وهو ما الذي يمكن أن يؤدي إلى تخفيف حالات الاستقطاب الحاد الذي تشهده حياتنا الاجتماعية والسياسية. هذا التحول في ماهية ونوعية ومعايير التصنيف لا يمكن الوصول إليه إلا ببناء منظومة سياسية غير طائفية، وغير عرقية، وذلك يعني التخلص من «الطائفية السياسية» وتجاوز «تطييف الحياة السياسية» كما يعني ترك «العرقية السياسية» وهنا يمكن تجاوز مصطلحات مثل «التشيع السياسي» و«الإسلام السياسي» و«المارونية السياسية» «والكردية السياسية» و«الأمازيغية السياسية» «والنعرات القومجية العربية» وغيرها من مصطلحات ومفاهيم تشير إلى عدم تجاوزنا مرحلة الطوطمية القبلية في حياتنا الاجتماعية والدينية والسياسية، وهي المرحلة التي كان فيها كهنة القبيلة وشيوخها يتحكمون بنواحي حياتها المختلفة. وهذا التحول لا يعني – بالطبع ـ التخلي عن المحددات العرقية والدينية، قدر ما يعني الحيلولة دون سيطرة هذه المحددات على الفضاءات السياسية، وبالتالي «تطييف» و«عنصرة» حياتنا السياسية، وهو الأمر الذي تسبب ويتسبب في كثير من الصراعات التي تعصف بالمجتمعات العربية والمسلمة على حد سواء. ومع الوصول إلى هذه المرحلة سوف تخف أو ربما تنتهي الصراعات الطائفية والعرقية، وستقتصر الخلافات على مستوياتها النظرية والفكرية في الحقول الأكاديمية والبحثية، وستكون مجتمعاتنا قد قطعت شوطاً كبيراً نحو تمدين الحياة السياسية والاجتماعية، ولن يجد الآخر سبيلاً للتدخل في الشؤون الداخلية، أو العمل على إذكاء الصراعات الطائفية والعرقية، بتحريض الأقلية على الأكثرية، وتخويف الأكثرية من الأقلية، لينفذ من خلال الصراعات إلى تمزيق النسيج الاجتماعي، وإسقاط النظم السياسية وهدم الدول على رؤوس الشعوب. ومع الوصول إلى هذه المرحلة ستتحول العروبة إلى عروبة ثقافية تجسد ثقافة وحضارة ولغة شعوب واسعة، لا عروبة عرقية، كما نظر إليها بعض القوميين العرب، وتتحول الكردية الثقافية والآشورية الثقافية والأمازيغية الثقافية إلى روافد غزيرة تصب في المجرى ذاته الذي يصب فيه الرافد الثقافي العربي. وعندها ستنتهي النخب السياسية القائمة على أسس طائفية أو دينية، وهذه النخب هي التي أسهمت في الانقسامات التي تشهدها المنطقة، لأنها في الواقع نخب نفعية ترى في الانقسامات والصراعات مصلحة لها، رغم كل ما خلفته تلك الصراعات من خراب اجتماعي وديني وسياسي. وقد مر علينا زمان كان رشيد سليم الخوري يتغنى بمواصفات نبي الإسلام، وكان فارس الخوري مسؤولاً عن الأوقاف الإسلامية في الحكومة السورية التي كان رئيس وزرائها، وحمل أمير البيان شكيب أرسلان شعلة الدفاع عن الإسلام والمسلمين، وتقدم الشيعة العراقيون الصفوف في ثورة 1920، ضد المحتل البريطاني، وهو زمن لكي نستعيده علينا أن نغادر صراعات الماضي، ونخرج من التصنيفات العرقية والطائفية لشعوبنا، لنجعل مصطلحي «الأقلية والأكثرية» تنفتح على دلالات سياسية، تتحدد عبر صناديق الاقتراع، وليس من خلال المحددات العرقية والطائفية.

*القدس العربي

 أمريكا تتهم إيران بزعزعة الاستقرار في المنطقة ( كاريكاتير)
أمريكا تتهم إيران بزعزعة الاستقرار في المنطقة ( كاريكاتير)