يخلط الكثير من أصحاب الرأي، وجهات إعلامية، عن قصد واضح، بين الربيع العربي وحاصل الدمار والخسائر التي حصلت على كل المستويات والأصعدة، وذلك من خلال تحميل كل تلك النتائج السلبية على عاتق الربيع العربي واعتباره المسؤول الأول والوحيد عنها، لبخلصوا بعد هذا إلى القول: ليت ذلك الربيع لم يمر على بلادنا وليته لم يكن!
الأمم المتحدة نفسها وقعت في مثل هذا النمط من التقييمات عندما أصدرت تقريرا عن خسائر البلاد العربية من الثورات، مقدّرة حجم تلك الخسائر بأكثر من 600 مليار دولار، وبحسب هذا التقرير، وكل التحليلات التي على النمط نفسه، فإن الخسائر تشمل تعطّل الإنتاج في القطاعات الصناعية وخسائر السياحة، بالإضافة طبعا إلى تقدير كلفة إعمار ما تم تدميره، غير أن اللافت في هذه التقارير والتحليلات أنها لا تعرج على الخسائر البشرية بأي شكل من الأشكال، رغم أنه الأفدح والأكثر استمرارا في التأثير السلبي.
لكن هل بالفعل الربيع العربي هو المسؤول عن هذا الدمار وتلك الخسائر؟ ثمّة كثير من الوقائع تفند هذا التزييف منها:
- أن الربيع العربي لم يدم سوى أشهر محدّدة، وفي بعض البلدان استمر لأيام فقط، أنجز مهمته المتمثلة بتعبير الشعوب عن رفضها لأنظمة الحكم الفاسدة والظالمة وغير الشرعية، بمعنى أن الربيع العربي قال كلمته ورحل.
- أنجز الربيع العربي مهامه ودفع ثمنها من تضحيات من قاموا به، ولم يكلف دوله حتى ثمن إشارة مرور، وانتصر بالفعل في كل الدول التي قام بها، أسقط زين العابدين بن علي وحسني مبارك في تونس ومصر، وأرضخ علي عبدالله صالح في اليمن، وأسقط معمر القذافي في ليبيا، وأنهى حكم استبداد العائلة الأسدية في سوريا في الأشهر الأولى من الثورة.
- أن مكونات الربيع العربي هي أبناء الطبقات المتوسطة قي المدن والأرياف، الذين يشكّل المتعلمون وأصحاب الشهادات العلمية نسبة كبيرة منهم، وهؤلاء يعرفون تماما أهمية الحفاظ على الملكية العامة كما أن أحد أسباب ثورتهم هو الحفاظ على تلك الملكية من نهب الأنظمة الفاسدة.
لقد دخل الربيع العربي بعد الأشهر الأولى من انطلاقته في مرحلة الدفاع عن النفس أمام الثورة المضادة التي شنتها الدولة العميقة وبقايا الأنظمة السابقة، التي تحالفت في الغالب مع قوى خارجية ولجأت إلى المؤامرة من أجل استعادة السلطة وتدمير موازين القوى الجديدة، وقد استخدمت في سبيل ذلك كل أصناف الأسلحة، في مصر وسوريا واليمن وليبيا، كما استخدمت موارد الدولة لقتل الشعوب وتدمير عمرانها، وأفرطت في هذا الاستخدام لتقضي نهائيا على ممكنات الثورة حتى زمن طويل قادم.
ليست الشعوب هي من لجأ للخارج من أجل نجدتها من أنظمتها السياسية، الشعوب حينما أرادت فعلت، كسرت حواجز الخوف وتحدّت سلطات الأنظمة القاسية، وأنجزت كل ذلك بطريقة حضارية وسلمية، فقد تظاهر الملايين في مصر دون أن يقتلعوا حجرا واحدا في أرصفة الميادين التي تجمعوا فيها، كما تظاهر ملايين السوريين الذين واجهوا رصاص النظام بالأغاني والورود لدرجة تستفز الناظر، فكيف لهذا الشعب يغني في مواجهة القاتل؟
فعلت الثورات المضادة كل شيء يعيد لها السلطة، لم يكن لديها ثمّة مشكلة في تشويه صورة شعوبها ومعتقداتهم وثقافتهم، كما لم يكن لديها مشكلة في تدمير النسائج الوطنية، فعلت كل ذلك باستخدام أساليب الخداع والمكر المخابراتية التي أتقنتها على مدار عقود طويلة، وتفنّنت في تجريبها على شعوبها، وما اكتفت بذلك، بل استعانت بالخارج بكل ذل ورضوخ ورهنت السيادة الوطنية لعقود قادمة لدرجة بات من الصعب الحديث عن دول مستقلة وذات سيادة في ظل وجود الأنظمة الحالية، ويشكّل نظاما السيسي في مصر وبشار الأسد في سوريا أوضح صور عن ذلك الرضوخ وضياع السيادة الوطنية.
لم يعمد الربيع العربي إلى اجتثاث الدولة العميقة ولا تدمير النسائج الوطنية، بل اعتبر ذلك نوعا من المخاطر لا يجوز الاقتراب منها، نظرا للخسائر التي قد ينطوي عليها مثل هذا التوجّه، ومن جهة أخرى لم يعتبر الربيع العربي أن تلك مشكلته ولا أهدافه، وقد بالغ في هذا الأمر لدرجة تغاضى معها عن المخاطر التي كانت تحيكها فلول الأنظمة، التي ستنتهز هذا الواقع وتنقض للانتقام من المجتمعات العربية التي قالت لها: كفى.
عربي 2