الأزمات السياسية المتفاقمة في المنطقة العربية اختلفت هذه المرة عن شبيهاتها خلال العقود الأربعة الماضية، فهذه المرة لم تعد الخلافات محصورة على كراسي الساسة، بل تجاوزت حدود الدولة القطرية واصطحبت معها النار والبارود، وتجاوزت قدرة ومكانة مجلس الأمن كمرجعية أممية وحولته إلى مجلس لوردات عليهم الحديث إلى الميكرفونات التي أمامهم فقط، وليس لهم أن يسألوا أين ذهبت توصيات ومخرجات مجلسهم.
الحرب مزقت سوريا إلى أشلاء، وتركيا تتوغل في الأراضي العراقية دفاعاً عن أمنها القومي، وروسيا تنصب صواريخ وبطاريات اس300 في سوريا تحسباً لهجوم أمريكي، وفرنسا تلغي زيارة للرئيس الروسي كانت مقررة هذا الأسبوع، وتخرج اللاعب الروسي من ليبيا، ومصر تخذل حليفتها الوثقى السعودية وتصوت لصالح المشروع الروسي، وبريطانيا تخذل حليفتها اليمن وتتقدم لمجلس الأمن بمشروع قرار يدين الحرب في اليمن قبل أن ترفضه روسيا، والحوثيون يقصفون العمق السعودي بالصواريخ البالستية، ويهددون الملاحة البحرية الدولية ويستهدفون سفينة إماراتية في باب المندب، وفي ذات المكان يستهدفون بارجة أمريكية مرتين متتاليتين ورئيس اللجنة الثورية الحوثية محمد علي الحوثي يدعو شيعة العراق وحشدها الشعبي إلى الهجوم على شمال السعودية، والعراق ولبنان وسوريا تم الحاقها بالحديقة الغربية لإيران، وفي دول الخليج خلايا شيعية ولاؤها المطلق لإيران وليس لدولها، وحملها للسلاح مسألة وقت، وأمريكا تقف خلف بحر ومحيط ترصد وتوجه بأمان، فهي أمام حرب ستفضي إلى تحقيق مشروعها الأكبر في المنطقة متكئة على حليفها المعمم في إيران، ولا يرهقها التفكير لأنها أمام حرب صفرية الكلفة.
هل نحن على باب القيامة، أم على بعد شهقة من حرب عالمية ثالثة في منطقة لم تستقر يوماً منذ غادرها الاستعمار الغربي في النصف الثاني من القرن العشرين، هل نحضر لحرب مفتوحة النهايات أم نحتضر لموت محقق؟!.
في شواهد التاريخ ما يقول أن المنطقة العربية شهدت حروباً عميقة الجراح لأسباب مخزية وتافهة، لم تتوقف عند معركة "داحس والغبراء" التي استمرت 40 سنة بسبب أن خيلاً سبق أخر، بل ظلت تستمر وتأخذ حروباً بالوكالة، لعل أسوأها تلك التي قادها العرب ضد السوفييت في جبال وأودية أفغانستان، جهاداً في سبيل نصرة البيت الأبيض، واشتعلت المنطقة مرةً أخرى في حرب لم نتعافى منها ولن نتعافى على الأقل خلال القرن الحالي وهي الحرب التي افتتحها الرئيس العراقي الراحل صدام حسين ضد جارته الصغيرة الكويت، ومعها فُتِحَتْ شطآن الخليج وأراضيه للقوة العسكرية الأمريكية التي أودت بنظام صدام إلى الفناء وسلمت العراق للحاكم الفارسي، وقبله أزالت أمريكا نظام طالبان من أفغانستان، وبهذا تكون قد خلصت إيران من شوكة سنية في شرقها وشوكة عربية قومية في غربها.
لولا حماقة صدام رحمه الله وطيب ثراه وقصة تهديد جارته الكويت بسبب المليار العاشر لما دخلت المنطقة في دوامة لا تعافي منها أبداً، فقد طالب الخليج بعشرة مليارات دولار كتعويض عن خوضه الحرب ضد إيران دفاعاً عن البوابة الشرقية للعرب، ووافق الجميع ودُفِعت تسعة مليارات وتشنج طه ياسين رمضان في الرياض بحثاً عن المليار العاشر من الكويت، وتوتر الحديث بينه وبين وزير الخارجية الكويتي، قبل أن يتدخل الملك فهد رحمه الله وقال له يا ابن العم أنا أدفع المليار العاشر، لكن حماقة القوة كانت تقود القطع العسكرية العراقية إلى حدود الكويت في ذات الليلة.
نحن على شفا حرب عالمية لن تبقي على أحد في المنطقة، وستغير مجرى التاريخ والجغرافيا، و"الحاكم العربي" أحد أبرز أسبابها، فدول ما بعد الربيع العربي ليست كما قبله، فالحاكم الذي تم خلعه كانت جذور فساده وتغييبه لمؤسسات الدولة فاعلة ومؤثرة، لأنه ربط كل شيء بشخصه، فهو الدولة والوطن والمواطن، فهذا علي صالح في اليمن وقذافي ليبيا وأسد سوريا ومبارك مصر كلهم أمثلة لذلك الحاكم "الفرد الحُشُودُ" على رأي محمود درويش.
ليست الحرب القادمة هي من يهدد مستقبل المنطقة، بل عقل الحاكم العربي الذي لم يقرأ التاريخ أو يستوعب متغيرات الحاضر، الحاكم الذي لم يبني وطنه، أو يحصن جبهته الداخلية بدولة المؤسسات والاقتصاد القوي، الحاكم الذي لا يزال يهتف "إذا متُ ظماناً فلا نزل القطرُ".. الحاكم العائق والإعاقة والضمور والعافية الباهتة، الحاكم الذي ينشئ جيشاً ينهب نصف ميزانية البلاد ويربيه على مفهوم الدفاع عن عرشه وأسرته، الحاكم الذي لا يزال يضرب على الطاولة بعنف ويصرخ "أنا الدولة والقانون" على طريقة صالح في اليمن... هذا الحاكم هو من سيقود تحولات النار والبارود في المنطقة.