كان يمكن القول إن مقال وزير الخارجية الإيراني، جواد ظريف، في صحيفة نيويورك تايمز، قبل أيام، بعنوان "لنخلص العالم من الوهابية"، وهاجم فيه المملكة العربية السعودية، إنما يدخل في سياق التنافس المحموم والعداء المعلن بين إيران والسعودية، لولا أنه جاء في سياق تصعيدٍ أميركيٍّ مواز مع المملكة، وافتراق مواقفهما حيال ملفاتٍ إقليميةٍ كثيرة. وبالتالي، لا ينبغي التهوين أبداً من شأن ذلك المقال، والإزاحات التي تجري في واشنطن، لناحية إعادة تعريف نطاق التحالفات الأميركية في الشرق الأوسط وطبيعتها، خصوصا أن كثيرين هناك في واشنطن ممن يشاطر ظريف طروحاته أن "الوهابية" تمثل المذهب الذي استوحت منه الحركات المتطرفة، مثل "داعش" و"القاعدة" و"بوكو حرام" إيديولوجياتها. ولعل التوافق الضمني والزمني بين تحميل ظريف "الوهابية المسلحة" مسؤولية هجمات "11سبتمبر" 2001 في نيويورك وواشنطن، وإقرار الكونغرس الأميركي، قبل ذلك بأيام، "قانون العدالة ضد رعاة الإرهاب"، والذي يسمح لأسر ضحايا الهجمات بمقاضاة المملكة طلباً لتعويضات، ما يغنينا عن كثير شرح في هذه النقطة. إذن، ليس سراً أن ثمة توترات أميركية-سعودية حقيقية، وهي غير مقتصرة على افتراق حسابات الحليفين في ملفاتٍ إقليميةٍ، كالاتفاق النووي مع إيران وسورية واليمن.. إلخ، بل إنها تطاول أسس التحالف نفسها المستمرة منذ عقود طويلة. وأي محاولةٍ لتبسيط مدى التوترات بين الطرفين وعمقها، وحجم التغييرات التي تعرفها المقاربات الأميركية في المنطقة، منذ هجمات 2001، أي ما قبل إدارتي باراك أوباما، سيقود إلى نتائج كارثيةٍ على المنظومة الأمنية الخليجية، والعربية عموماً، في ظل غياب بدائل للتحالف مع واشنطن، فالأمر غير مرتبط، فحسب، بتضاؤل اعتماد الولايات المتحدة على النفط السعودي والخليجي، ولا كذلك باتجاه المقاربة الخارجية الأميركية للتركيز أكثر على حوض المحيط الهادئ، آسيوياً، في مقابل التخفف قليلاً من أعباء الشرق الأوسط، بقدر ما أنه مرتبط بإعادة تعريف مصدر التهديد الأساس للأمن القومي الأميركي، والمصالح الأميركية الحيوية في الشرق الأوسط والعالم. ومنبع هذا التهديد، حسب هذه المقاربة، "الإسلام السني" اليوم، وتحديداً "المذهب الوهابي"، الملهم للحركات المتطرفة والإرهابية، كما تزعم هذه المقاربة. ولمن لا يزال يعيش في الأوهام، هنا، نذكّره بأن "قانون العدالة ضد رعاة الإرهاب" حظي بإجماعٍ في مجلس الشيوخ الأميركي، وبأغلبيةٍ مطلقةٍ في مجلس النواب، بمعنى أنه تمَّ بتوافق بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي، وهو أمر ينبئ بالكثير حول حقيقة التغيرات الجارية في واشنطن لمن أراد أن يفهم، وبأن الأمر أكبر من أن ينتهي مع مغادرة الرئيس باراك أوباما البيت الأبيض.
ضمن السياق السابق، قد يكون مفيداً التذكير ببعض ما نقلته مجلة "ذا أتلانتيك" الأميركية في تقريرها الشهير، ربيع العام الجاري، بعنوان "عقيدة أوباما" في السياسة الخارجية. إذ لم يكتف أوباما بمطالبة السعودية، والدول الخليجية الأخرى، بـ"مشاركة المنطقة" مع إيران، بل ذهب إلى حد تحميلها، وتحديدا السعودية، مسؤولية تأجيج "الغضب الإسلامي"، وتصدير نسخةٍ "وهابيةٍ" أكثر "أصولية" من الإسلام. إنها الاتهامات نفسها التي حفلت بها مقالة ظريف، والتي تزامنت مع الذكرى الخامسة عشرة لهجمات سبتمبر/أيلول 2001، ما يحيلنا مجدّدا إلى تقرير "ذا أتلانتيك"، سالف الذكر، والذي ينقل عن مسؤولين في البيت الأبيض قولهم إنه كثيراً ما تسمع مستشاري أوباما في مجلس الأمن القومي الأميركي، يُذَكِّرونَ زائري البيت الأبيض أن غالب مرتكبي هجمات "11 سبتمبر" كانوا سعوديين، وليسوا إيرانيين. ومرة أخرى، نعيد التشديد، هنا، على أن تبسيط الأمر ومقاربة إرهاصات افتراق الأجندتين الأميركية - السعودية في إدارة أوباما، سيكون ذا نتائج كارثية على أمن المملكة والخليج العربي، ذلك أن ترسيم معالم الافتراق الأميركي - السعودي أصبح حديثاً يتشارك فيه الحزبان، الديمقراطي والجموري، فضلا عن دوائر التفكير السياسي الأميركي.
لنتجاوز الاستطراد في توصيف إرهاصات الافتراق وأسبابه، ولنعرج قليلا على المطلوب سعوديا.
واضح أن حسابات المملكة شديدة التعقيد والحرج، فهي، كما المنظومة الخليجية العربية، بنت حساباتها الأمنية والعسكرية على التحالف مع الولايات المتحدة، لكن المقاربة الأميركية في المنطقة تتغير، وهي لا تلقي كثير بال لهواجس حلفائها فيها. ولا تكتفي الولايات المتحدة بمطالبة السعوديين والخليجيين بتقاسم المنطقة مع إيران، كما في سورية ولبنان، بل إنها تضغط على السعودية، لقبول خنجر إيراني في خاصرتها الجنوبية على حدودها مع اليمن. والحديث هنا عن الحوثيين، لينضاف ذلك إلى خنجر إيراني آخر، في خاصرتها الشمالية على حدودها مع العراق. وإذا كان من المفهوم أن المملكة لا تقدر، حالياً، على الخروج من تحالفها مع الولايات المتحدة، فذلك لا يعني أن ترتهن أجندتها له. وقد أثبتت المملكة، من قبل، أنها قادرةٌ على توسيع هوامش مناورتها في إطار التحالف، وذلك كما فعلت عندما أخذت زمام المبادرة في اليمن ربيع العام الماضي عبر "عاصفة الحزم". ونعلم اليوم أن إيران استفادت من الفوضى العربية، لتوسيع نفوذها في المنطقة، واستفادت من استنزافنا، نحن العرب، بعضنا بعضا، فضلا عن غياب زعامة عربية تعبئ الفراغ الذي أحدثته الفوضى. وفي النتيجة، تنظر الولايات المتحدة إلى منطقةٍ تنهار، ولا ترى فيها إلا لاعبين أساسيين قويين ومتماسكين، ولهما أجندة واضحة، هما إسرائيل وإيران، وإلى حدٍّ ما تركيا، التي تحاول الآن أن تعيد فرض مكان لها على طاولة صفقات الشرق الأوسط المقبلة، وذلك بعد أن تحرّرت من القيود الداخلية، بعد محاولة الانقلاب الفاشلة. في المقابل، ثمّة غياب عربي فاضح.
آن الأوان لكي تتغير المقاربات السعودية تحديداً، على أساس أنها الطرف العربي الأقوى الذي بقي متماسكاً. لم يؤتِ الاستثمار في الثورات العربية المضادة، كما في مصر، أكله المرجو، بل إنها أصبح عبئاً يرهق كاهل المملكة. والتواصل الفاتر مع تركيا، بعد فترة من التوتير معها، ليس كافيا لإيجاد محور قوي في المنطقة، قادر على أن يفرض اعتباراته في أي مساوماتٍ وتسويات. وإعلان "الإخوان المسلمين" عدوا مركزياً مزّق "المحور السُنِّيَ"، في وقت تَعَضَّدَ فيه المحور الشيعي. وأحد أهم حلفائها الخليجيين، من أعضاء نادي "الاعتدال العربي"، مشغول بأجندته الخاصة التي لا تراعي المصالح السعودية بالضرورة، بل إن ذلك الطرف مشغولٌ بتقديم نفسه، أميركياً، على أنه الحليف الأقرب للولايات المتحدة قيمياً ومصلحياً. وستزيد محاولات التقارب، غير المباشر، مع إسرائيل، في إضعاف موقف المملكة استراتيجياً، ولن تحقق لها ما تريده، فإسرائيل لا تريد إضعاف إيران لتقوية السعودية، كما أن هواجس إسرائيل ليست بحجم الهواجس السعودية، فالولايات المتحدة ليست في وارد إعادة مقاربة تحالفها معها، وتفوق إسرائيل النوعي والكمي ليس محل نقاش، ومجال نفوذها الحيوي إقليميا محصّن.
باختصار، من أجل المملكة، ومن أجلنا جميعا، نحن العرب، ينبغي تجاوز خلافاتنا البينية، وتوسيع هوامش مناورتنا، وعدم رهن مصالحنا لأي طرفٍ كان. الوقت يمضي، وإننا نكاد ندخل الوقت الضائع. ثمة تحدّيات ينبغي أن تواجه اليوم، في حين أن أخرى يمكنها أن تنتظر. نتمنى على المملكة أن تبادر إلى أخذ زمام المبادرة لتوحيد الصف العربي، وتهدئة التوترات الداخلية، والتعاون، بمساعدةٍ قطرية، مع تركيا لتقوية موقفنا، وذلك قبل أن يتّسع الخرق على الراقع، ونصحو على شرق أوسط جديد لا نكون طرفاً في معادلاته وصياغاته.
*العربي الجديد