التطورات الأخيرة في الساحة اليمنية تؤشر إلى مدى التراجع الميداني والمعنوي لتحالف الحرب والانقلاب في صنعاء، فقد ثبت الآن وبالدليل القاطع أن تحالف الحوثي وصالح تعبير صاعق عن ذلك الانقلاب الذي لم يتجاوز شرعية الدولة فحسب، بل أيضاً كامل المرجعيات التوافقية الحكيمة التي أخرجت اليمن من سيناريو التقاتل العدمي بعد الانتفاضة الشبابية والجماهيرية في عام ٢٠١١، فما قام به تحالف الحوثي وصالح كان بمثابة انقلاب على التوافقية اليمنية الداخلية التي مهدت للمبادرة الخليجية، تلك التي أظهرت مدى حرص دول مجلس التعاون الخليجي على انتشال اليمن من وهدة الصدامات الداخلية، ويعرف المراقبون كم كان حرص دول المجلس على تعميم تلك الوصفة العاقلة التي تم التوقيع عليها في الرياض وعلى رؤوس الأشهاد، واستتبعها البرنامج الزمني واضح المعالم، وتضمن ذلك البرنامج انتقالاً سلساً للسلطة الرئاسية، والشروع في تنفيذ بقية البنود المتناسبة حصراً وجوهراً مع دستور الجمهورية اليمنية، والتعددية السياسية، وخيار الانتقال نحو دولة اتحادية تمهد الدرب للتنمية والمشاركة الأفقية والمواطنة القانونية الواحدة، فيما تغادر ثقافة الإقصاء والأوهام السلالية المناطقية.
لم يكن صالح واتباعه صادقين في قبولهم بالمبادرة الخليجية، ولم يكن الحوثيون صادقين في انخراطهم العملي في مؤتمر الحوار الوطني، بل كانوا ينسجون سيناريو الانقلاب، وكانت الذريعة لذلك السيناريو القول إنهم يرفضون تغيير أسعار الوقود، ولقد انطوت تلك المطالبة على ذريعة كاذبة لما يبدو حقاً يراد به باطل، فما كان يهم معسكر صالح لا يتعدى استمرار نهب ملايين الدولارات التي كانت تصلهم من خلال تصدير النفط المدعوم عبر وكلاء التجارة غير المشروعة التي جعلت صالح ومن على نهجه أسماء يشار لها بالبنان في عالم تجارة السلاح والمخدرات. ولأن تجارة النفط المهرب من اليمن ظلت مصدراً أساسياً من مصادر نشاط الأوليغارشيا العسكرية والمالية المدوزنة بقيادة (الزعيم) صالح، فقد هالهم قرار التعويم النقدي لسعر النفط، لأنه سيفقدهم ملايين الدولارات، ومن عجائب القدر أن ينخرط دعاة (الإصلاح الإمامي المذهبي المناطقي) مع أعداء الأمس، ليكونوا رأس الحربة الظاهرة في معادلة الاختطاف للدولة.
كان الانقلاب على شرعية المؤسستين الرئاسية والحكومية اليمنية انقلاباً مكشوفاً على المبادرة الخليجية، ونتائج مؤتمر الحوار الوطني، ومشروع الدستور الاتحادي لدولة جديدة تتجاوز سلبيات الماضي، وكان أيضاً انقلاباً على الرعاية الأممية للتحول الإيجابي العاقل في اليمن.
لم يصفع صالح والحوثي ذاكرة الجماهير والنخب السياسية اليمنية فحسب، بل أيضاً دول مجلس التعاون الخليجي التي كانت، وما زالت حريصة على مساعدة اليمن للخروج من مأزقه، وكذلك المجتمع الدولي من خلال الاستهانة بالدول الراعية لتطبيق المبادرة الخليجية، وجهازي الأمانة العامة للأمم المتحدة، ومجلس الأمن الدولي، وبهذا المعنى تجاوز تحالف الحرب والانقلاب كل المرجعيات والثوابت، عاقداً العزم على اختطاف الدولة اليمنية، ومباشراً انقلاباً سافراً، وشرع في الاعتداءات المتتالية على أبراج الكهرباء وخطوط أنابيب النفط، ناشراً في الوقت ذاته موتاً متنقلاً عبر الاغتيالات المجرمة للقيادات السياسية والعسكرية.
ما يجري اليوم ترجمان اعتيادي لمصائر المعتدين على الذاكرة والجغرافيا والتاريخ، والشواهد الماثلة خير دليل على ما نذهب إليه، ففي عدن يتم استئصال جيوب الإجرام المتجول مع المفخخات والموت العدمي، وفي حضرموت وأبين ينحسر المتطرفون الإرهابيون رغماً عن أماني تحالف الحرب والانقلاب، وفي تعز تتقدم المقاومة الباسلة بمعية الجيش الوطني ودعم التحالف العربي، ليتهاوى محاصرو الثقافة والحضارة، وترتقي تعز بمثابتها الرفيعة في الزمنين التاريخي والمستقبلي لليمن الكبير، وفي صنعاء يشتد الخناق على الانقلابيين النابعين من ثقافة البؤس المناطقي الضيق. وعلى المستوى الدولي يلخص مندوب الأمانة العامة للأمم المتحدة نتائج تداولات الكويت، فتقبل الشرعية ويرفض الانقلابيون، وفي الرياض يجتمع رعاة التسوية السياسية التوافقية اليمنية ممثلين للأعضاء الدائمين في مجلس الأمن الدولي، والاتحاد الأوروبي، والتحالف العربي، فيكررون دعم الشرعية اليمنية بوصفها نتاجاً طبيعياً للعملية السياسية التي قبل بها وارتضاها الجميع، ويقطع الاتحاد الروسي الشك باليقين على لسان نائب وزير الخارجية الروسي، وقبل ذلك نائب السفير الروسي في صنعاء، مؤكدين معاً أن روسيا مع الشرعية اليمنية، وأنها مع القرار الأممي ٢٢١٦ المجير على البند السابع.
بعد هذه الحقائق الدامغة سياسياً وميدانياً وقانونياً، ماذا بوسع تحالف الحرب والانقلاب؟ وهل من شك في أن مخاتلي الأمس القريب يمكنهم الانخلاع من محنتهم الوجودية بوصفهم معاندين للتاريخ والحقائق الموضوعية؟
*الخليج الإماراتية