قاسم بن على الوزير
نعم " ما زلنا نحبو على ركبنا بعد " وللأخ الأستاذ أحمد الفقيه أن يستريح إلى هذا الجواب يعود إليه بنفس صيغة سؤاله الذي ختم به مقاله عن " القبيلة في مفهوم الإسلام " ( الشورى العدد 253 بتاريخ 30 رجب 1418 هـ ) .
ولكن إذا كان ذلك موضوع اتفاق : فان قوله : أن الإسلام " أشعل حرباً شعواء على القبيلة قديماً وحديثاً " هو موضع نظر إن لم يكن موضع خلاف ، أود أن نصل من خلال مناقشته إلى اتفاق على كلمة سواء .
إن الإسلام لم يعلن الحرب على القبيلة . ولكن على " القبلية " لأن الإسلام قد حارب " العصبية " في أي شكل من الأشكال ظهرت .وبأي زي من الأزياء تزيت . وبأي ستر من الأستار تسترت .
فالقبلية التي تعني - بطبيعتها – قيم التعصب للانتماء القبلي وتتحيز للأعراف القبلية التي تناهض وتعيق قيام " مجتمع الأمة " وتخالف الشريعة وقوانينها . وتناهض سيادتها محافظة بذلك على شروط التخلف – هي التي شن الإسلام ويشن عليها الحرب . أما القبيلة ذاتها ؛ فهي وحدة اجتماعية قائمة في الواقع يمكن – إذا تحررت من " قبليتها بمعنى عصبيتها " – أن تكون وحدة حضارية من وحدات مجتمع الأمة ، تزيد هذا المجتمع قوة بما تمنحه من عناصر الترابط . والتكافل والتآزر التي تتميز بها القبيلة في نطاقها . وذلك حين تصبح وحدة في مجتمع لا مجتمعاً بذاته وعضواً في جسد تتكامل به سائر أعضائه ويتمم بعضها بعضاً .
لقد عالج الإسلام " المجتمع الرعوي الأول " * معالجة واقعية إيجابية . وذلك بربط تلك الوحدات الصغيرة المتناحرة والمتقاتلة فيما بينها بوحدة أكبر هي وحدة الأمة . على أساس من التعارف والتآلف القائم على قيم جديدة تجعل أكرم الناس أتقاها . وأعلاها مقاماً أكثرها نفعاً وخدمة للناس : " يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إنا أكرمكم عند الله أتقاكم" .
بذلك انتهت العصبية ، وحل محلها المساواة بين الجميع في مجتمع ليس فوقه سوى الله سبحانه وتعالى وتحت لوائه تتكافئ أقدار الناس أجمعين ، وقد قضى ذلك أن تصان حرية الجميع كذلك وأن يتحقق العدل تحقيقاً لذلك ومن أجل هذا تحققت سيادة الشريعة عن رضى وتسليم . وبهذا حل القانون محل العرف وحلت قيم الأخوة والمساواة والتكافل والعلم محل قيم العصبية الضيقة الجاهلية وروعيت مصلحة الأمة باعتبارها الإطار العام التي تتحقق بتحققها مصالح الوحدات المختلفة ومصالح الأفراد التي تتكون من مجموعها الأمة . لقد قام - بذلك كله – المجتمع المدني أو الأهلي التي شكلت القبيلة فيه مقوماً من مقوماته ووحدة من وحداته أدت إلى تقوية بنيانه وصيانة أركانه .
حتى إذا أقصى سلطان الفرد الجائر سيادة الشريعة عادت القبيلة إلى أعرافها على نحو أو آخر كما عادت أنواع العصبيات الأخرى . ولقد تفككت من جراء ذلك عرى الأمة واحدة بعد أخرى وتمهد الطريق لعودة العصبية القبلية . واستعادتها لقيمها وأعرافها كل ما غابت أو غيبت قيمة من قيم الإسلام ، أو عطل حكم من أحكامه .هكذا بداء الوهن الذي ما فتأ يسري في جسد الحضارة الإسلامية حتى أتى عليها !
المشكلة إذن ليست في القبيلة ذاتها . والذي يجب التخلص منه هو القبلية ( بمعنى العصبية وأعرافها ) لا القبيلة . إن ما يجب هو أن نطور القبيلة ونؤهلها لتؤدي دورها من حيث هي وحدة اجتماعية من قوى المجتمع المدني مهيأة لأداء دور غير مقدور عليه بدونها .. أما محاولة القضاء عليها ؛ فبالإضافة إلى أنه غير ممكن فانه غير مجد في نفسه لو كان ممكناً ، لأنه حرمان للمجتمع من أحد أهم قواه المدنية . وإنه لعبث مروع أن نشغل أنفسنا بما هو غير ممكن ولا مفيد ولا مطلوب للنهوض . ونهدر جهودنا في سبيل ما لا نقدر عليه بدلاً من الانشغال بما هو ممكن ومنشود ونافع لقيام المجتمع المدني .
إن المدخل إلى هذا التطور هو سيادة الشريعة . من شأن ذلك أن ينحى – كما نحى في فترات ماضية – الأعراف القبلية الجائرة لمصلحة القانون . وحين يسود القانون فإن القبيلة تصبح بالضرورة وحدة من قوى المجتمع المدني لا أكثر مسيرة بنفس القانون وخاضعة له ، وقائمة على حراسته في ءآن بما تحققه من توازن اجتماعي وسياسي مطلوب يصب في مجرى التوازن العام المنشود لقيام مجتمع مستقر ومزدهر ..
وقد أشار أستاذنا الأخ زيد بن على الوزير في كتابه القيم :" نحو وحدة لا مركزية " إلى التشابه بين الملامح المتعددة للقبيلة في اليمن وبين الكانتون في سويسرا. ومن هنا رآى في اللامركزية حلاً لهذه المشكلة من جهة ، واستثماراً لها من جهة أخرى ؛ فوجود القبيلة يساعد على " اللامركزية " . وهذه بدورها تحل مشكلة القبيلة حلا حضارياً يخدم مجتمع الأمة الأمثل لصيرورة ( وليس تصفية ) القبيلة خلية من خلايا المجتمع الواحد . ووحدة من وحدات الكيان الواحد ..
وفي الحقيقة ؛ فإن تلك الوحدات المغلقة هي التي مكنت سويسرا من تطوير نموذجها الفريد . وليس ثمة ما يمنع اليمن من تطوير نموذجها الخاص انطلاقاً من وحداتها المغلقة والمفتوحة معاً . على أن لا يغرب عن البال أن المثال لا يعني بالضرورة الاحتذاء ، فليس المشبه كالمشبه به من جميع الوجوه . كما أنه لابد أن يعطي للفارق الزمني الذي يستغرقه تطور مجتمع ما نصيبه عند القياس بتطور سابق في مجتمع آخر . وبنفس القدر من الأهمية ، يجب إعطاء الخصوصيات أهميتها اللازمة عند المقارنة بين نموذجين يراد منها الاستفادة من التجارب على أي وجه من الوجوه . ومع ذلك وفي كل حال ، فلعله من الصواب أن نتذكر أن أصول المجتمع السويسري وأصول المجتمعات الأوربية هي في الأساس أصول قبلية .. حتى ندرك عمل التطور بمختلف جوانبه في ذلك فلا تزيغ دراسة التجربة عن وجهها .
ذلك هو مجمل القول - وليس فصل المقال - في الموضوع. وما احسبني والأخ الأستاذ الفقيه إلا ملتقيان على قول " إن الأعراف القبلية طاغية عل? المبادئ والمثل والقيم الإسلامية " وما دام الأمر كذلك ؛ فان المطلوب عمليا هو شن الحرب على سيئات هذه الأعراف وسوءاتها لا عل? القبيلة ذاتها من حيث هم بشر . والحل هو إحلال المبادئ والمثل والقيم الإسلامية . محل تلك الأعراف . أي إحلال الشريعة محل الطاغوت . وتحقيق سيادتها فعلاً وقولا .. وعبئ السير نحو ذلك يقع على عاتق أهل الفكر والعلم أولاً ؛ فبالثقافة المتجسدة في السلوك العام وبالقانون الحارس من وراء ذلك تتم وحدة المجتمع ويتم " إرساء وترسيخ دعائم العدالة " ولكن على أساس من توازن سياسي فعال يحول دون جبروت الدولة وعبودية المجتمع لها ..
إن علينا أن نتنبه إلى هذا جيداً ونحن ندعو إلى بناء الدولة الحديثة. . وحين ننادي بالتحديث فإننا يجب أن نفرق بقوة بينه وبين التخريب . لقد اتخذ التحديث - لسوء الحظ - خطاً معوجاً إذ استهدف تدمير بنى المجتمع الإسلامي لا تحررها وتمزيق صفوفها لا رصها . وتبديد قواها لا توحيدها من أجل النهوض . وذلك بتركيزه على " الدولة " وحدها لا الأمة واستئثار الدولة بكل وسائل القوة الحديثة . وبالحق المطلق لإحداث التغيير المطلوب وفق تصورها المبتوت الصلة بتصور المجتمع وروحه وتوجهه ، وفرض الوصاية عليه ومصادرة حرياته وإرادته، والتحكم حتى في قوته اليومي . بحجة نهضته . وكانت النتيجة هي ما نراه اليوم في كل بلدان المسلمين : حرب معلنة أو غير معلنة بين المجتمع والدولة . ومزيد من الانهيار بدلاً من النهوض ومن التبعية بدلاً من الاستقلال ومن العبودية للأنظمة بدلاً من الحرية ومن المجاعات – وليس فقط الفقر – التي بددت الحلم في الكفاية فضلا عن الرفاه !
إن التحديث الحق " ونفضل مصطلح التجديد " هو أن يتاح للمجتمع أن يتابع تطوره بحرية وفق إرادته هو ، وعلى هدى من تجاربه ووعيه بالتجارب من حوله . إن عقيدته الخالدة تضئ ظلام نفسه وظلام طريقة . وفي ضؤها الهادي يستطيع أن يتابع خطاه إلى الأمام . وإلى الأمام باستمرار . ودون وصاية من أحد . ولا ينبغي أن تكون الدولة الحديثة إلا منسقة لجهوده " منفذه لإرادته " معبرة عنه وخادمة له لا سيدة عليه ..
نعم خادمة له لا سيدة عليه . فليس هو بالعبد ..
ولا وصية عليه فليس هو بالقاصر ..
ولا قائمة بدوره بدلاً عنه فليس بالكل ولا العاجز . وإلا فليست حديثه !
هذا هو معنى التحديث كما نفهمه .
ومجمل القول أنه يجب أن نجدد قوى المجتمع لا أن نهدمها و أن نطور الأمة لا أن نغير هويتها وذاتيتها . وأن نخلي بينها وبين انطلاقها صوب أهدافها التي ترتضيها لنفسها بكل ما في طموحها من مخزون . وأن نعي – دون تساهل قط – أن دور الدولة الحديثة ليس هو تقرير ما يجب للأمة .. إنما هو تنفيذ ما تقرره الأمة . وأن السيادة ليست بأية حال للدولة لا بالأصالة ولا بالنيابة عن الأمة . وإنما هي للشريعة التي ارتضتها الأمة بحريتها واختيارها . وبموجبها تتوزع الحقوق والواجبات . إن الأمة هي التي تحدد دور الدولة ومهماتها وليس العكس ..
وإلا فإننا نسير في الاتجاه المعاكس ضد أنفسنا ، وضد التحديث . وهذا ما تريده الدولة ومن ورائها من قوى الهيمنة . ويرفضه المجتمع ومن بداخله من قوى التحرر .. باسم التحديث أيضاً ..
*صوت الشورى