بشرى المقطري
لم تحقق المجتمعات الإنسانية نقلات نوعية في واقعها التاريخي وتحولها الديمقراطي، إلا باحترامها حقوق الإنسان وقيم المواطنة المتساوية، منطلقة في ذلك من مبدأ إنصاف ضحايا الصراعات والحروب، وكشف منتهكي الجرائم وتقديمهم للعدالة؛ وهو ما لم يحصل في مجتمعاتنا العربية.
كغيرها من بلدان المنطقة العربية، لطالما أفلتت الأنظمة السياسية التي حكمت اليمن من المساءلة، مستفيدة من لامبالاة المجتمع، أو رغبته في تجاوز الاحتراب، أو ضغط المجتمع الدولي، كما حدث إبّان ثورة 2011، حينما مُنح الرئيس السابق «علي عبدالله صالح» (الحصانة)، وفقاً للمبادرة الخليجية التي مثلت انتهاكاً مضاعفاً لضحايا التظاهرات السلمية والمخفيين قسراً وضحايا الاغتيالات السياسية، ليكرّس بذلك السلطة والمجتمع، على السواء، مبدأ إفلات المجرمين من العقاب.
ظل موقف السلطة السياسية اليمنية اللاحقة من ضحايا الحروب والصراعات وشهداء الثورة على ما هو عليه، إذ لم يكن إنصاف الضحايا من أولويات سلطة المرحلة الانتقالية التي سعت جاهدة إلى طي هذه الصفحة من دون معالجة، معتبرة التسوية السياسية معطى منطقياً ووطنياً لإسقاط حق الضحايا في تقديم مجرمي الحرب إلى العدالة؛ بينما كان من شأن تجريم المنتهكين وإدانتهم، واتخاذ إجراءات عقابية، أن يُحدث تخوفاً لدى الأحزاب والجماعات من ممارستها أي انتهاك ضد المجتمع.
إلا أن العقلية التسويفية التي وسمت أداء السلطة الانتقالية، وظروفاً موضوعية وسياسية أخرى، عززت لدى جماعة الحوثي و«صالح» عدم الاكتراث تجاه انتهاكاتهم الجسيمة ضد اليمنييين في تعز وعدن والضالع، لأن النتيجة، في النهاية، ربما قد تكون تخريجاً سياسياً لا ينتصر للضحايا بمحاكمة قاتليهم، بل قد يسقط حقهم في العدالة والإنصاف باعتبارهم خسائر ثانوية في دوامة الاقتتال الداخلي.
لم تتوقف مأساة اليمنيين عند انتهاكات أطراف الصراع الداخلي، إذ وقعت غارات متكررة لقوات التحالف العربي، بقيادة المملكة العربية السعودية، على أحياء ومنازل سكنية في عدة مدن يمنية، سقط جرّاءها ضحايا مدنيون كثيرون. كان آخر هذه الغارات الجوية لقوات التحالف وأسوأها ضرب صالة أعراس في منطقة الواحجة في مديرية ذُباب التابعة لمدينة تعز، مخلفة أكثر من 130 شهيداً، منهم 70 امرأة، وتعد أبشع حادثة تتسبب بها قوات التحالف منذ بدء عاصفة الحزم في 26 مارس/آذار الماضي.
تعاطت أطراف الصراع اليمني ورعاتها الإقليميون مع هذه الواقعة بعدم اكتراث، كما فعل الرئيس اليمني، «عبد ربه منصور هادي»، الذي لم يعزّ أسر الضحايا، ولم يطالب بكشف عن ملابسات الحادثة، وتصرف كأن الأمر لا يعنيه. وتملص الطرف السعودي من أي مسؤوليه، أو حاول استغلالها سياسياً كما فعل إعلام الحوثيين وصالح.
هكذا يذهب الضحايا اليمنيون بلا إنصاف من العالم، فيما عدا إدانة الأمين العام للامم المتحدة، «بان كي مون» الحادثة، واعتبار المتحدث باسم المفوضية العليا لحقوق الإنسان أنها الحادثة الأكثر دموية، منذ بدء النزاع في اليمن.
الأنكى من انتهاك أطراف الصراع اليمني ووكلائهم الإقليميين حق الضحايا في الإنصاف منطق منظمات المجتمع المدني اليمني في تعاطيها مع الضحايا اليمنيين، من منطلق «هوية القاتل»، إذ تحولت منظمات كثيرة إلى منصات إعلامية لأطراف الصراع المحلي والخارجي، ناقلة تشوهاتها السياسية إلى الدورة الثلاثين لمجلس حقوق الإنسان، المنعقدة حالياً في جنيف، حيث تخندقت هذه المنظمات مع أطراف الصراع.
فحرصت المنظمات الحقوقية التابعة لجماعة الحوثي و«صالح» على إبراز انتهاكات قوات التحالف وإدانتها، في حين حرصت المنظمات الحقوقية التابعة للحكومة اليمنية والتحالف العربي على إبراز انتهاكات الحوثيين وصالح في حق المدنيين وإدانتها، ولم تعرض أي من هذه المنظمات انتهاكات الطرف الذي تواليه وتدينها.
وعلى الضد من مواقف المنظمات الحقوقية اليمنية المشاركة في جنيف اليمني، كان موقف منظمتي العفو الدولية و«هيومن رايتش وتش» نزيهاً وإنسانياً، بمطالبتهما تشكيل لجنة تحقيق دولية لكشف انتهكات أطراف الصراع في الحرب اليمنية، وهو ما كانت هولندا قد تبنته مشروع قرار دولي، لكنها سرعان ما سحبت طلبها لاحقاً استجابة لضغوط سعودية.
وهكذا، تنكّرت هولندا للحراك الحقوقي المساند لتشكيل لجنة تحقيق دولية في جرائم أطراف الصراع في اليمن، وتبنت الموقف السعودي الداعم للجنة الرئيس «عبد ربه منصور هادي» التي شكلها مؤخرا للتحقيق في انتهاكات 2011.
كان واضحاً، منذ البداية، أن قرار تشكيل لجنة تحقيق دولية لن يرى النور، حيث ستعترض السعودية التي تترأس حالياً لجنة استشارية لحقوق الإنسان على تشكيل هذه اللجنة، وسترفض أي إجراء يخضعها للمساءلة بما ترتب عن حربها، إذ تعتبر السعودية هذه الحرب مسؤولية السلطة اليمنية التي طلبت تدخلها.
علاوة على ما صاحب دعوة تشكيل هذه اللجنة من تشويه إعلامي متعمد من الحوثيين و«صالح»، معتبرين أن التحقيق الدولي لن يطاولهم، كونهم ليسوا أطراف صراع دولية، وإنما أطراف صراع محلية؛ كما سيواجه تشكيل لجنة دولية عقبات فنية كثيرة، ليس آخرها صعوبة الوصول إلى اليمن والتقصي عن الانتهاكات بشكل محايد، خصوصاً مع تحول المنظمات الحقوقية الفاعلة في اليمن، والتي لديها فروع وتمويل مالي، إلى أذرع مدنية لأطراف الصراع، ولجزء من الصراع مصالح كثيرة في استدامة هذه الحرب وتجذير انتهاكاتها.
تنصل مجلس حقوق الإنسان من مسؤوليته الإنسانية والأخلاقية تجاه ما يحدث في اليمن، وأحال الضحايا اليمنيين إلى ما تراه لجنة الرئيس «هادي» في من يستحق الإنصاف، ومن يمكن تجاوزه إذا كان القاتل حليفاً، وأنتهت أعمال المجلس، ليس في الانتصار لحقوق الإنسان، ولا في صالح الضحايا اليمنيين وحقهم في الإنصاف، وإنما كانت مقرارته، في النهاية، لصالح رغبات السعودية والحوثيين وصالح.
بذلك انتهت أعمال المجلس على حقيقة أخرى أيضاً يدركها اليوم يمنيون كثيرون، حقيقة أنه بقدر ما تتوجب إدانة أطراف الصراع اليمني ووكلائهم الإقليميين، صار من الواجب أيضاً إدانة اللافتات الضخمة والشعارات الزائفة لمنظمات حقوقيةٍ، صارت في غير صف الضحايا.
العربي الجديد