فخر العزب
يتردد "عزالدين منير" كثيراً قبل أن يقبل أن يلعب دور "عباس" ذلك المقاتل المتحوث، بدين الجسد، ذو اللحية الخفيفة، والذي ظهر على قناة المسيرة التابعة للحوثيين بلباسه الأسود اللون، متهماً القرى التي تجاور قرية حدنان "معقل المتحوثين" بأنهم قاعدة ودواعش قاموا بحشد المقاتلين من كل مكان، ومتوعداً بتطهير المنطقة منهم.
يقبل "عزالدين" أن يلعب هذا الدور - الذي رفضه الكثيرون - نتيجة لكونه أكثر رفاقه بدانة، ولحرصه الشديد على أن يكمل مع رفاقه توثيق الأعمال القتالية التي شهدتها المنطقة بين مليشيات الحوثي والمقاومة الشعبية والتي وصفت بالأشرس "سقط في الجبهة 68 شهيدا من المقاومة مقابل أكثر من 500 قتيل حوثي طوال أيام الجبهة التي استمرت شهرا ويوم واحد", يفعلون ذلك وهم يؤرخون لانتصارات المقاومة ويوثقون أحداث التاريخ بألعابهم، فيكتبون التاريخ ويعيشون التسلية في نفس الآن.
لا داعي لـ "شهرزاد" أن تحكي بعد الآن لتكتمل حكايات ألف ليلة وليلة، فالأطفال اليوم يحكون أروع القصص لأنفسهم وهم يستخدمون الصوت والحركة في تمثيل مواقف حقيقية عاشوا تفاصيلها، وعلقت في ذواكرهم الصغيرة، وهم بذلك يستخدمون أبسط الامكانات في لعب اللعبة التي أدهشت وأبهرت وهي تجمع كل المتناقضات، الفائدة والخطر في نفس الوقت.
إنهم بذلك يتحملون مسؤولية غيرهم في توثيق الأحداث وحفظها من التزوير واصطناع البطولات الزائفة، فجبهة القتال التي شهدتها المنطقة قد وضعت الجميع في احدى خانتين، إما خانة البطولة أو خانة العار، والأطفال بتمثيل أحداث الحرب يسجلون شهاداتهم كشهود عيان عاشوا المشاهد عن كثب، وذاقوا من علقم الحرب، فهذا ابن شهيد والآخر ابن جريح وثالثهم ابن مقاوم نجا بأعجوبة من قتال كان يستمر أحيانا لمدة يوم وساعتين من القتال المتواصل .
"اقتحامات"
اللعبة التي أطلق الأطفال عليها اسم "اقتحامات" تبدأ بتشكيل فريقين احدهما يمثل المقاومة والفريق الآخر يمثل الحوثيين، يطلق الأطفال على أنفسهم أسماء المقاومين مثل "بدر" و"حمود سعيد" و "الشراجي"، بينما يتنافسون على لعب دور "مبارك" وهو البطل الشاب - ابن المنطقة - الذي أحرق دبابة الحوثيين في قرية "ذي عنقب"، وأنجز الخطط وقاد العمليات العسكرية لاقتحام مواقع الحوثيين المتحصنة كتبة مسعود وقرية المنارة والمجمع التربوي، بينما يطلق فريق الحوثيين على أنفسهم أسماء الحوثيين مثل "أبو حمزة" وهو قائد ميداني جاء من صعدة لتدريب المتحوثين، وأسماء المتحوثين من أبناء المنطقة مثل "عبدالعزيز الأمين" و"صادق" و"عباس".
يستخدم الأطفال الأخشاب والربالات المطاطية لصناعة البنادق الخاصة بهم، ويستخدمون علب المانجو الفارغة لصناعة الجعب العسكرية، كما يستخدمون أعقاب السجائر كذخائر لهذه البنادق، بحيث يتم اطلاقها ضد الخصوم بعد شدها بالربل المطاطي، ويحتاجون لبعض الحبال كقيود يتم بها تكبيل الأسرى, كما أنهم يستخدمون الأكياس المخصصة لدقيق القمح بعد ربطها بالعصي لصناعة المحفات التي يستخدمونها في نقل قتلى الاشتباكات وإسعاف المصابين إلى المستشفى الميداني الذي تم اعداده سلفا لتطبيب الجرحى, حيث ينقلون الجرحى عبر الطريق الوعرة التي استخدمها المقاومون على أرض الواقع.
يبدأ فريق المقاومة بالهجوم على أحد مواقع الحوثيين بعد اعداد خطة الاقتحام، حيث تكون مهمة اعداد الخطة والإشراف عليها من مسؤولية القائد الذي يلقى السمع والطاعة من الأفراد، وتبدأ تنفيذ الخطة بإشارة البدء ليبدأ الهجوم واقتحام الموقع، وأثناء عملية الاقتحام يردد الحوثيون صرختهم المعروفة، فيقوم المقاومون بالانقضاض عليهم وقتل بعضهم وأسر عدد آخر منهم، بعد عملية الأسر يقوم قائد كتيبة المقتحمين بإصدار توجيهاته إلى الأفراد بنقل الأسرى إلى أحد الأطفال الذي يلعب دور "الشراجي"، يحدث كل هذا أثناء انشغال الطفلة "زينب بسام" بسحق بعض الأشجار على حجر صغير وهي تعد وجبة الغداء للمقاومين، لترسم بذلك الدور الذي لعبته المرأة في مشرعة وحدنان كصامدة جنباً إلى جنب مع الرجل في وجه العدوان.
"القناص"
تستمر المعركة لساعات, وتتساقط مواقع الحوثيين الواحد تلو الآخر، ليتم وصول المقاومة إلى القناص الذي لعب دوره الطفل "محمد فضل" وهو مخترع اللعبة، حيث يختبي القناص أمام منارة جامع القرية الصغير تشبهاً بالقناص الشهير الذي كان في قرية المنارة معقل الحوثيين في حدنان، وبعد أن وصل الأطفال المقاومون إلى القناص قاموا برميه من على سطح الجامع إلى الأرض، وأصيب القناص برضوض والتواء في يده.
تحدث "محمد فضل" أنه ابتدع هذه اللعبة من أجل تنمية عقول رفاقه الأطفال, وكذا من أجل الاستعداد لأي حرب قادمة مع الحوثيين, بحيث يكون الأطفال متدربين عسكرياً ومستعدين للمشاركة في الحرب إذا وجدوا موافقة من الآباء, ويؤكد أنه وافق على أن يلعب دور القناص من أجل أصحابه الأطفال .
يؤكد "محمد فضل" أيضا أنه سيشارك في أي حرب قادمة دفاعا عن أرضه وعرضه في حال توفر السلاح والذخيرة، كما أنه يباهي أنه صار مدربا وقادرا على معرفة أنواع الأسلحة المختلفة وكيفية التعامل معها.
"آثار الحرب"
عاش الأطفال تحت القصف الهمجي للمليشيات وباتوا يعرفون البوازيك والهاون ومضاد الطيران وأنواع البنادق، على الرغم من أنهم ولدوا وترعرعوا في مديرية مسالمة خالية من ثقافة السلاح, وتضع التعليم على رأس أولوياتها, ويكفي أن نعرف أن المقاومين كانوا من طلبة الجامعات كأطباء ومهندسون ومحامون ومحاسبون مساهمون في نهضة الوطن .
لهذا فقد تركت الحرب آثارها لدى هؤلاء الأطفال الذين عاشوا أيام الحرب بكل تفاصيلها، ومارسوا كل أنواع الصمود في وجه العدوان الذي شنته مليشيات الحوثي/ صالح على قرى مشرعة وحدنان في جبل صبر, بحيث أنها تركت أثراً سلبياً من الصعب التخلص منه وستظهر مشاكله الاجتماعية في السنوات القادمة .
يرى "عرفات علي ناجي" وهو متخصص بعلم الاجتماع أن مجتمع تعز معروف بثقافته وسلميته نتيجة انتشار المدارس والمكتبات, ومجتمع جبل صبر جزء من هذه المدينة الحالمة, لكن هذه الحرب قد أنتجت العديد من الافرازات وولدت عند الأطفال ظواهر سلبية وخاصة حمل السلاح, ولذا فلعبهم ــ أي الأطفال ــ أصبحت حروباً واقتحامات وأسر ونقل جرحى, ولم يعد هناك خوف لدى الأطفال ولا لدى آبائهم من هذه الألعاب في الوقت الذي يجب على الآباء توجيه الأبناء للتعليم بدلاً عن السلاح.
"المليشيات تريد فصل أبناء تعز عن المدارس وتوجيههم للمتارس" يضيف عرفات الذي يضيف أن مجتمع صبر المعروف بسلميته لمئات السنين لم يشهد حرباً مثل التي فرضت عليه مؤخراً, كما أن هذا المجتمع لم يعرف ظواهر الثأر ولا حمل السلاح, بل إنه مجتمع يشتهر بتقديس القانون والكل يعرف المثل "اقتل الصبري ولا تشارعه" , ولذا فهذه الحرب سوف تنتج ثقافة الحرب وترسخها لدى الأطفال بحيث ينشؤون معها, وإذا لم يتم تحصينهم فسيكونون ضحايا للعديد من المشاكل الاجتماعية وفي مقدمتها الثأر" .
هي إذن اشكالية تدق ناقوس الخطر وهي تنذر بتحول مجتمع من عشق المدارس إلى عشق المتارس، وهذا بعض ما تفعله الحرب .
المصدر: Facebook.com