د. فهد الطياش
استشرف هيربرت شيللر أستاذ الإعلام بجامعة كاليفورنيا – سان ديجو- باتجاه الحكومات الغربية إلى مراقبة تدفق المعلومات عبر الإنترنت قبل ما يقارب عقدين من الزمن. بل استشرف قبل ذلك بأكثر من عقد من الزمن لعبة توظيف الإعلام والمعلومات في خدمة القوى الاقتصادية وغيرها من مراكز القوى الغربية في كتابه الشهير "المتلاعبون بالعقول".
ما دعاني لاستحضار هذا التاريخ الغربي هو تجسيده للحاضر في الغرب وفي عالمنا العربي، والذي لم نتعلم من دروسه كثيراً. ففي يناير الماضي برز خلاف أميركي بريطاني حول مشروعية مراقبة الإنترنت، ولكن اتضح أن خلاف الرئيس الأميركي أوباما ورئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون لم يكن على المبدأ وإنما على الطريقة والتفاصيل. وها هي بعض المنظمات الحقوقية الأوروبية تقاضي بريطانيا على مراقبتها للإنترنت. والسبب يعود أن السحر بدأ ينقلب على الساحر. فتدفق المعلومات غير المنضبط وحرية التعبير التي تشدق بها الغرب وخاصة أميركا كانت متزامنة مع رجحان كفة ميزان قوتها فمنها تتدفق المعلومات إلى العالم النامي وبيدها ترسم الخرائط وتدق طبول الحروب. ولكن تلك المنصات الرقمية الجديدة قلبت الطاولة عليها ولم تعد تملك قصب السبق في تدفق المعلومات وحرية التعبير، بل أصبحت على حد تعبير الدولتين الغربيتين الراعيتين لحرية التعبير (بريطانيا وأميركا) هي منصات لنشر "الإيدولوجيا الخبيثة" في إشارة للمتطرفين الإسلاميين، إنها مفارقة عجيبة لأن المثل المصري انطبق عليهما ف" طباخ السم لازم يذوقه".
نحن في عالمنا العربي تجرعنا ولا نزال تلك السموم المتطرفة والتدخل ولعل آخرها تلك التدخلات السمجة باسم حرية التعبير من وزيرة خارجية السويد بحق سعودي أساء للإسلام والمسلمين باسم هذه الحرية المزعومة. وهي وسائل اتصال اجتماعي- وغير مسؤول أحياناً – باتت تقذف على عالمنا العربي الكثير من سموم لتشجيع المتطرفين والسذج على تطبيقات الفوضى الخلاقة. فهل كانت تلك البشرى لكوندليزا رايس وزيرة الخارجية الأميركية السمراء بفوضى خلاقة وشرق أوسط جديد كانت مرحلة للتهيئة والانطلاق وبعدها تبدأ عملية تحريك العقول المفخخة بالضغينة والحقد والكراهية بل واستباحة الدماء المعصومة باسم الإسلام وهو منها براء.
ولعل بيان مؤتمر وزراء إعلام دول مجلس التعاون الثالث والعشرين الذي اختتم أعماله الخميس الماضي في الدوحة وبيان مؤتمر الإعلام الأمني العربي الذي اختتم أعماله في تونس قد لمسا بعض تلك الجوانب.
ولذا كانت دعوتهم واضحة وصريحة في تأكيدهم على التمسك بقيم التسامح والتعايش كأسس أصيلة في سياسة دول المجلس، وضرورة التزام الإعلام الخليجي بها وتصديه بحزم وفطنة للرسائل المشبوهة.
ولعل المهم في البيانات هو التحذير من جهات مشبوهة تنشر الأفكار التكفيرية والضالة إلى الشباب ومحاولة التغرير بهم عبر وسائل الاتصال المختلفة.
في اعتقادي أن الوضع أخطر بكثير من التغرير وهو أقرب إلى محاولة زرع فتنة طويلة الأمد لتحقيق أهداف قوى خارجية أو إعادة رسم خارطة القوى كما يسميها شيللر. ففي أطروحاته المتعددة يرى هذا الاقتصادي الأميركي الذي تحول إلى رمز من رموز الإعلام الأكاديمي أن المطلوب إعادة التحكم في تدفق المعلومات والتلويح بالقوة التقنية والرقمية في تطبيقه. فهي قوة تستطيع من خلال تدفق معلومات رقمية معينة تهديد السيادة الوطنية لبعض الدول. وقد سبق لفرنسا فرض حظر على قناة المنار التابعة لحزب"اللات" اللبناني في مسعى لوقف رسائل التطرف الشيعي. فالخطر الحقيقي الذي دعا لتلك المؤتمرات والتحذيرات يكمن في تحديد من هو المستفيد من الفوضى والعنف والتدمير في الشرق الأوسط؟ وهل هناك تجنيد لقوى إقليمية لممارسة هذا الدور نيابة عنها؟ وهل هناك قوى غير سياسية وعسكرية للهيمنة وإنما قوى لشركات لتحريك منتجات صناعة الموت والحرب؟ وإذا كانت القوى الاقتصادية حاضرة في فوضى الشرق الأوسط فإنها بحاجة إلى "أيد عاملة" في تحقيق صناعة الموت.
فالدواعش والحوثيين وغيرهم من القوى التي تصل إليهم قنوات الهمس الغربي التحقت بسلك الوظيفة "في شركات الفوضى الخلاقة" فلو كانت الولايات المتحدة مثلاً تعطي للشرعية الدولية أهمية كما في قرارات الأمم المتحدة التي جرمت أعمال الحوثيين وسطوهم على الشرعية في اليمن لما أقدمت على فتح قناة همس معهم في الشقيقة "الصامتة" عُمان.
بل يكشف شيللر من خطر سيطرة تلك الشركات الكبرى على تدفق المعلومات داخل الولايات المتحدة إلى طغيان الأخبار الخفيفة على الأخبار الحقيقية القوية. فهو يقارن بالصفحة الأولى في صحيفة مثل نيويورك تايمز قبل عشرين عاماً وبينها الآن.
فاما تلك الأخبار للشركات القوية أو الأخبار الخفيفة وربما الفضائحية. وهو يرى أن تفتيت الصحف إلى أجزاء هي أقرب للناعمة مثل الفن والسيارات والرياضة والطبخ والترفيه وإبقاء الجزء السياسي وصفحات الرأي في جزء يتيم.
إنها مرحلة مرت بنا ونحن نتحدث عن شرق أوسط جديد وفوضى خلاقة والآن مرحلة تجنيد العقول المفخخة من الداخل. فما عسانا نفعل؟ إحدى السبل هي ما وضعه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز عبر عاصفة الحزم، فهي خطوة قلبت الطاولة وردت السهم في نحر من أطلقه. وجاء تكاتف الشعب السعودي مع الدولة في دحر الإرهاب الذي زرع بذور الفتنة الطائفية كرسالة بليغة لا تقبل التأويل.
المرحلة المقبلة هي كما يقول المتابعون لمفاهيم "إدارة الجماجم والعقول" تكمن في تخريج جيل يملك أسس التفكير الناضج والناقد. فهو جيل إن لم يفكر بنفسه سيأتي من يفكر نيابة عنه ويستزرع أفكاره داخل جماجم غضة في فترة ما نسميه "بالنقش في الحجر". فيسير الشك دوماً يفسد اليقين.
نقلا عن الرياض//