د. خالد الصوفي
ترصد هذه المقالة التحليلية في عدة حلقات ؛ الموقف والفعل الديمقراطي وتفاصيل فحواه ومسار تميزه وإخفاقه في اليمن .. منذ الثورة الأم الى ثورة الشباب السلمية وتداعياتها ..لا تتبع التفاصيل التاريخية إلا ما استدعته الضرورة .. وذلك من خلال الاجابة على سؤال : ما أسباب تعثر الديمقراطية في اليمن؟
لماذا لم نصل إلى الديمقراطية و الدولة المدنية ؟ وإلى متى سنظل نسير ؟ وفي أي الظروف سنجدها ؟ وما عدة الطريق للوصول اليها ؟ هذا ما حاولت ان أجيب عليه في مجموعة حلقات هذه المقالة ؛ وأظن ان لم أوفق في الإجابة فعلى الاقل فتحت المجال أمام الباحثين والمتخصصين لمناقشة هذه القضية المحورية التي لا تعد ترفاً او وجهة نظر وانما مصير مجتمعنا وبنية حضارة انها ببساطة حياتنا برمتها وحياة اجيالنا ووطن كبير يحتوينا نسكنه ويسكننا اسمه اليمن.
وسأحاول في السطور القادمة تتبع أسباب تعثر الديمقراطية وخفوت الامل من خلال تشريح الواقع السياسي والحزبي كمؤشر للديمقراطية في اليمن ؛ ما كان وما يجب أن يكون ليستمر الامل للوصول الى الحياة .. الى الديمقراطية..
الديمقراطية .. هاجس تاريخي
ديمقراطية الرأي الواحد
جاء قيام شطري اليمن ؛ اليمن الشمالي (1962-1990م) ، و اليمن الجنوبي (1967 – 1990) ؛ مرتبطاً بهاجس الديمقراطية الذي ظل يلح في أدبيات النظامين والحكومات المتعاقبة لهما ؛ كل بحسب رؤاه وتوجهاته ومفهومه لمعنى الديمقراطية ؛ ذلك المصطلح المتعدد المفاهيم. فالديمقراطية في الشطر الجنوبي ارتبطت: باسم الشعب، وجاء الهدف الرابع لثورة الشطر الشمالي ينص على إنشاء مجتمع ديمقراطي ؛ وعلى هذا الأساس بدأت ملامح النظامين وكأنهما يعززان النظم الديمقراطية بإتاحة الفرصة لتعددية حزبية وقيام مجتمع مدني يشارك في بناء الخارطة السياسية والمجتمعية للنظامين الجديدين ؛ خاصة وأن الثورة اليمنية في الشطرين قد قامت ضد التخلف والاستبداد والانفراد بالسلطة ومقاليد الحكم واكتوت بهما، إلا أن النظامين دخلا في صراعات داخلية وخارجية. حيث سيطر الحكم العسكري على السلطة في الشمال وارتبط نظامه بالنظام المصري الذي لا يرقى آنذاك ليكون مثلاً يحتذى به ديمقراطياً ولن يشجع عليه أو يساعد على قيامه في اليمن؛ ونحا النظام في الجنوب منحاً آخر؛ بالديمقراطية الشعبية التي صادرت الحريات وألغت الأحزاب.
وظل النظامان الشموليان يلوكان الديمقراطية ويحكمان باسمها بتعاقب الرؤساء والحكومات في الدولتين في انتظار اللحظة التي يتهيأ فيها الشعب لتقبل الحكم الديمقراطي بحسب نظرتهم ولم تأتِ هذه اللحظة إلا بتلاشي النظامين من الواقع السياسي بإعلان الوحدة اليمنية في 22 مايو (1990م) . لقد بدأت المطالبة بالديمقراطية مرتبطة بعمل الأحزاب السياسية في اليمن منذ ظهورها وتحديدا فيما بعد النصف الأول من القرن العشرين ؛ التي نهضت بالعمل الوطني والمطالبة بإصلاح الحكم، وتطور الى المطالبة بتغييره في الشمال والجنوب ؛ وارتبطت معظم هذه الأحزاب بشخصيات ونخب مثقفة وطنية أو ذات مصالح، ولم ترتبط بجماهير وأفراد مُنظَّمة في إطار هياكلها؛ فكانت عبارة عن تنظيمات صغيرة معارضة أكثر منها أحزاباً، خاصة وهي تعمل في تخلف كبير وفي ظل تفشي الأمية وترسخ تقاليد قبلية مرتبطة بأفكار دينية لا تؤمن بأي فكر جديد ؛ وهذا في ظل عدم وجود الدولة بالمفهوم المتعارف عليه قبل الثورة سواءً في الشمال أو الجنوب إذا استثنينا مستعمرة "عدن".
ورغم قيام الجمهوريتين في الشطرين بمسارين مختلفين في نظام الحكم إلا أنهما تشابهتا في موقفهما من الديمقراطية تجسد بتسيد الرأي الواحد وفي حظر عمل الأحزاب السياسية ؛ التي انزوت امتداداتها مع الأحزاب السياسية الجديدة التي تشكلت بعد الثورة إلى الاختفاء ولجأت إلى العمل السري . فقد تبنى النظامان حظر الحزبية دستورياً في ظل الحكم العسكري في الشمال وحكم الحزب الواحد في الجنوب التنظيم السياسي الموحد (الجبهة القومية ) ثم الحزب الاشتراكي ، ومورست أساليب القمع وملاحقة الأحزاب السرية الخارجة عن خط واتجاه نظام الحكم في كلا الشطرين.
ولإن الأحزاب السياسية تقوم في الأساس من أجل الوصول إلى الحكم أو المشاركة فيه أو ضد شرعيته ؛ ولأن الأحزاب اليمنية كما سلف كانت عبارة عن مجموعة من النخب السياسية والمثقفة فلم تهتم أو لم تستطع في ظل العمل السري تنظيم الجماهير وتوعيتها للانخراط في صفوفها ؛ فكان هدفها الوصول إلى السلطة، بغض النظر عن ثقلها الجماهيري من عدمه ؛ فلجـأت إلى السلاح والعنف والانقلاب ضد نظام الحكم . وكلما استطاع فصيل أو تنظيم سياسي الوصول إلى الحكم تحت مبرر إقامة الحكم الديمقراطي والمشاركة في اتخاذ القرار ، كان أول قرار يتخذه هو الانفراد بالسلطة وحظر مشاركة الأحزاب والقوى السياسية الأخرى بل ومصادرتها وقمعها ؛ وهو السبب الذي من أجله خرج هو على الحكم ؛ لتبدأ الحلقة المفرغة من جديد . وفي وضع كهذا فإن سمات العمل الحزبي المتشكل لدى الجماهير اليمنية قبل الوحدة تميزت بالضبابية والاهتزاز خاصة وهي تنطلق من أطروحات وأفكار عقائدية – (بعثية ، ناصرية ، إسلامية ، قومية ، اشتراكية ، ماركسية ..إلخ) - متناقضة مع بعضها مما يجعل معه شبه استحالة انضوائها تحت تجمع واحد في ظل عدم استيعاب الشعب لهذه الرؤى والأفكار والتي تصطدم في معظمها مع مكوناته الاجتماعية المتميزة بالمحافظة والتقليدية .
إن تتبع المشهد السياسي في اليمن منذ قيام الثورة إلى قيام الوحدة يؤكد تأجج الصراع السياسي في الشطرين في ظل حكم شمولي وأحزاب سرية عقائدية تسعى للإطاحة بالسلطة وانشقاقات متكررة داخلها مدعومة من أحد الشطرين ضد الآخر، فمولئت السجون بالمعارضين والناشطين السياسيين وصودرت الحريات وتكررت مساحات العنف وتقاربت مسافات توقيتها في كامل الفترة إلى ما قبل الوحدة ، إذا استثنينا "الشمال" في الثماني سنوات التي أعقبت تشكيل "المؤتمر الشعبي العام " كتنظيم حزبي ضم مختلف التيارات السياسية .
لقد فشلت تجربة التنظيم الواحد في الشمال والجنوب وتواجدت ملامح القبيلة في مفاصل الدولة وإدارتها ؛ ولم تلق الأحزاب السياسية السرية القبول من الشعب بأفكارها اليسارية والقومية المستوردة من بيئة مغايرة له ومن خارج إطاره الدلالي لتعارضها مع أفكاره التقليدية التي نشأ عليها في ظل تفشي الأُمية بين الغالبية العظمى من أفراده .
لقدغابت الديمقراطية داخل التنظيمات الرسمية الحاكمة نفسها رغم تشكيلها من ائتلاف لفصائل وأحزاب سياسية متقاربة في الرؤى والأفكار ؛ حتى يبدأ الفصيل الأقوى بفرض التوجه الذي يؤمن به ليبدأ الصراع بالتصفيات الجسدية أو الإقصاء للفصيل الأضعف . فتلاشى الحزب الرسمي " التنظيم الشعبي الثوري " في عهد السلال ، بالانقلاب عليه في ( 5 نوفمبر 1967) واختفي " الاتحاد اليمني " في عهد الإرياني ، بإقصائه من الحكم في (1974) ، واستمر الصراع داخل الجبهة القومية ومن بعدها الحزب الاشتراكي في الجنوب ؛ وفي كل مرة يخرج الفصيل المنتصر بعد إقصاء أو تصفية الفصيل المعارض له ليبرر هذا الصراع بالحفاظ على مقدرات الوطن أو على الحزب الطليعي ومصالح الشعب ضد اليمين الرجعي أو اليسار الطفيلي ، وهو ما يعني خروج اتجاه سياسي معارض ليعمل في السَّر وتستمر الحلقة المفرغة كما أسلفنا .
فارتسمت صورة الديمقراطية والأحزاب السياسية عند المواطن اليمني في الشمال بكونها أداة من أدوات شق الصف الوطني ، وأداة للتخريب ، وبأنها تحمل أفكاراً ضد الدين وتقاليد المجتمع ؛ نتيجة لترويج الإعلام الرسمي والمؤسسة الدينية ؛ المدعومة من توجه الدولة، خاصة في ظل قيام أكثر من حرب أهلية بين الشطرين ؛ والربط بأن الطرف الجنوبي يريد نشر الشيوعية في الشمال المحافظ ، فأتيحت للإسلاميين مساحات من الحرية لمواجهة " الجبهة الوطنية للمعارضة " المدعومة من الجنوب والتي تحارب النظام في المنطقة الوسطى من الشمال ، وترافق ذلك في ظل حظر دستوري للحزبية من بداية قيام الثورة ، و مقولات مُروج لها بأن الحزبية خيانة وبأنها تبدأ بالتأثر وتنتهي بالعمالة ، أو نرفض الحزبية سواءً جاءت بقرون الشيطان أو مسوح الرهبان . وحتى في الأوقات التي تم فيها تشكيل تنظيمات حزبية رسمية في عهد الرئيس "السلال" ثم الرئيس "الإرياني" ؛ وبعد ذلك عام (1982م) في عهد الرئيس "علي صالح" لم يطلق مصطلح الديمقراطية أو تطلق كلمة حزب على هذه التنظيمات، بل " التنظيم الشعبي الثوري" ثم "الاتحاد اليمني" ، ثم "المؤتمر الشعبي العام" وكأنها تجمعات سياسية بعيدة عن الحزبية. التي تؤسس للأنظمة الديمقراطية !
أما في الجنوب فقد ارتبطت الصورة عند المواطن بالحزب الاشتراكي الحاكم الذي يكرس في إعلامه بأنه قائد الشعب؛ ودفع بمعظم المواطنين للانخراط في صفوفه خاصة الموظفين منهم ؛ مع وعيهم بوجود الأحزاب ذات الرؤى المختلفة ، لكنها مرفوضة ؛ لتعارض توجهاتها مع فكر الحزب الاشتراكي والنظرية العلمية .
واستمرت وسائل الإعلام في الشطرين على هذا المنوال في طرحها للمفهوم الحزبي الذي هو انعكاس لأنظمة الحكم في البلدين حتى نهاية العقد الثامن من القرن الماضي ؛ حين بدأت الترتيبات الجادة بين الشطرين لإقامة وحدة اندماجية بينهما ؛ لتقوم وسائل الإعلام الرسمية في الشطرين بتبني أجندة جديدة تمهد من خلالها لقيام الوحدة وتحاول تخفيف حدة التباينات التي كانت كل منهما تتبناها وتروج لها ؛ خاصة وقد اتفق الحزبان الشموليان المؤتمر الشعبي العام والحزب الاشتراكي على نظام حكم لدولة الوحدة يقوم على الديمقراطية والتعددية الحزبية. وبدأت وسائل الإعلام من اليوم الأول لقيام الوحدة تروج لمصطلحات جديدة متناقضة كلية مع ما كانت تروج له إلى ما قبل يوم واحد فقط من هذا التاريخ . فبعد أن كانت الحزبية تخريباً وعمالة و " كفراً " ؛ أصبحت الحزبية ؛ ديمقراطية وتنمية ووطنية . !! دون القيام بتبني استراتيجية تمهيدية أو القيام بحملات توعوية وتثقيفية للرأي العام للدخول في الوضع الجديد .
أو القيام بمراجعة البرامج السياسية للحزبين الحاكمين وتوجهاتهما السابقة في حكم اليمن قبل الوحدة والمتمثل بالحكم الشمولي في الشطرين ، القائم على الحظر الحزبي وقمع الحريات ومصادرة كل فكرة أو رأي معارض وتبريره ؛ ومن ثم تبرير الأخذ بالنظام الديمقراطي اسلوباً لحكم دولة الوحدة وطريقة حياة لمواطنيها . ولم يتم شيئ مما تقدم عند قيام الوحدة بل سارعت الأحزاب السياسية الحاكمة والأخرى التي كانت تعمل سراً في تلك الفترة إلى الانتقال لعصر التعددية ، حاملة معها كل سلبيات الفترة السابقة التي تربوا عقوداً عليها ؛ من فكر شمولي وثقافة الرأي الواحد وعصبية القبيلة والمنطقة .
الوحدة وديمقراطية التعددية الحزبية .. مشروع الملامح الديمقراطية .
جاءت الوحدة اليمنية بين شطري اليمن في 22 مايو(1990) مقترنة بتبني نظام حكم قائم على الديمقراطية والتعددية الحزبية للخروج من احتكار الحزبين الحاكمين للواقع السياسي في البلدين ومن حالة صراع الشمولية و الايدولوجيا وأحادية الرأي . فخرجت الأحزاب السرية لتعلن عن نفسها إلى جانب الحزبين الحاكمين الاشتراكي و المؤتمر؛ وتأسست أحزاب جديدة مستفيدة من المناخ الديمقراطي الذي أقرته دولة الوحدة . وظهر (46) حزباً سياسياً وفي مجتمع حديث عهد بالديمقراطية نتيجة للكبت السياسي الذي عاشته اليمن بشطريها وغياب الأطر القانونية لتنظيم العمل الحزبي بداية الوحدة ؛ فظهر ما يسمى بالفوضى الحزبية.
وانطلقت التجربة بحماس لا متناه في لحمة سياسية وشعبية بعد جوع ديمقراطي وطول انتظار للانعتاق من براثن الشمولية والتخلف التنموي في كلا الشطرين صوب دولة المؤسسات والدولة المدنية التي تخلقها غالبا النظم الديمقراطية ؛ وفعلاً كاد الامل بالديمقراطية أن يكون واقعاً ملموساً ؛ وكادت أن تعيشه اليمن ؛ وبدأت ملامحه ؛ خاصة في الفترة الأولى من عمر الوحدة .
ولأن الأحزاب السياسية بدأت تمارس نشاطها في بيئة لم تتهيأ بالتدريج نحو العمل وفق مفاهيم الديمقراطية والتعددية السياسية ومبادئ المواطنة وحقوق الإنسان ، خاصة وأن النظامين السياسيين في شطري اليمن عملا منذ الستينيات على توجيه التنشئة الاجتماعية والسياسية باتجاه تكريس ثقافة سياسية أحادية لا تعترف بالتعددية ؛ فلم يستطع التحول المفاجئ باتجاه الديمقراطية والتعددية السياسية محو آثارها كلية . لذلك لم تتمكن الأحزاب من التغلغل في أوساط شرائح المجتمع لاسيما في المناطق الريفية ، حيث ذهبت نسبة كبيرة من أصوات الناخبين في أول انتخابات (1993) إلى المرشحين المستقلين , وحصل عدد من مرشحي الأحزاب على أصوات الناخبين لاعتبارات شخصية وعلاقات قربى أو قبلية واجتماعية وليس اعتماداً على برامجهم الانتخابية والحزبية .
فلم تستطع التنظيمات الحزبية خلق مساحة للاستقطاب السياسي و إدماج المواطنين ؛ ورغم توفر البيئة المناسبة لذلك بعد تحقيق الوحدة ؛ ولم تستغل حماس الناس واندفاعهم للمشاركة السياسية لغياب الرؤية والثقافة السياسية لديها ولسيطرة الفكر التقليدي وسطوة القبيلة عليها ؛ فتراجعت المشاركة السياسية عند المواطن الى الادلاء بالصوت وبدأت بالتراجع وخف حماسها كثيراً وتحديداً منذ انتخابات 1997 التي بنتائجها خرج الإصلاح من الائتلاف الحاكم ليسيطر المؤتمر الشعبي على غالبية مقاعد البرلمان.. إن المتتبع لمسيرة الحراك الديمقراطي يجد أن معظم الأحزاب لا فاعلية ولا وجود حقيقي لها على الساحة السياسية والجماهيرية حيث تشير أرقام الانتخابات البرلمانية الثالثة في تاريخ الديمقراطية اليمنية (2003، 2009) – التي مازالت نتائجها ممتدة إلى اليوم كأطول مجلس نواب في العالم - أنه رغم توفر مشاركة عالية للناخبين ( 6.071.209) ناخب ؛ ومشاركة جميع الأحزاب السياسية المرخص لها بالعمل تقريباً.
فمن بين (21) حزباً شارك بمرشحين في الانتخابات لم يستطع(16) حزباً منهم الفوز بمقعد واحد في مجلس النواب الـ (301) ، بل وصل الأمر إلى عدم قدرة بعض الأحزاب الحصول على (2500) صوت وهي الأصوات التي وقعت لها عند إنشائها، وبموجبها مُنحت ترخيص مزاولة العمل السياسي؛ والأسوأ من ذلك أن بعض الأحزاب لم تستطع الحصول على مائة صوت من(5.979.897) صوتاً من الأصوات الصحيحة في الانتخابات .!
ديمقراطية المبندقين
بدلا من ان تكون الديمقراطية صراع لضمان مصالح المجتمع والوطن :
بدأت تجربة الديمقراطية والتعددية الحزبية في اليمن من بدايتها تتخذ طابع الصراع السياسي خاصة في الفترة الانتقالية بين الحزبين الحاكمين (المؤتمر الشعبي العام والحزب الاشتراكي اليمني) وبين بعض الأحزاب والتنظيمات السياسية وعلى رأسها حزب التجمع اليمني للإصلاح قبل الاستفتاء على مشروع دولة الوحدة الذي أجري في منتصف مايو (1991) برفض الأخير الاستفتاء على الدستور إلا بعد تعديل بعض المواد فيه؛ خاصة ما يتعلق بالمادة الثالثة التي أصر ان يكون نصها : الشريعة الإسلامية هي المصدر الوحيد للتشريعات جميعاً ؛ بدلا من أن الشريعة الإسلامية المصدر الرئيس للتشريع . مترافقة مع حملات إعلامية وكأنه استكمال لصراعها السابق مع الحزب الاشتراكي قبل الوحدة ذي التوجه اليساري وتصوير النظرية الاشتراكية العلمية التي كان يحكم بها في الجنوب بأنها " كفر وإلحاد ".
وقد أدى هذا الصراع إلى إظهار الحزبين الحاكمين وكأنهما ضد الإسلام ووصلت الحملات الإعلامية بين المؤيدين والمعارضين ذروتها باتهام الحزب الاشتراكي بالشيوعية والإلحاد، بل طالبت بعض القوى الدينية باستتابة أعضاء الحزب عند قيام الوحدة ؛ من منظور إنه حزب لا ديني لا يؤمن بالإسلام ويريد فرض الماركسية على الشعب في الشمال. وتلتها اتهامات بتزوير النتائج وفرض الدستور على الشعب في أول خطوة ديمقراطية يمارسها المواطن اليمني الذي لم يتهيأ لها من قبل؛ فقد جاء التحول إلى الديمقراطية والتعددية دون وجود تراكم ديمقراطي وهو ما أدى إلى ظهور العنف والاغتيالات والقلق السياسي وعدم الاستقرار الأمني وهو بلا شك ارتبط في أذهان الجماهير بالديمقراطية والتعددية الحزبية .
وازداد الصراع بين الحزبين الحاكمين لعدم اكتمال الدمج بين المؤسسات في الدولتين خاصة المؤسستين العسكريتين ؛ رافقته أزمة اقتصادية كبيرة نتيجة لدمج الهياكل الإدارية والوظيفية وصرفيات مهولة لترتيب مقار وإدارات الدولة الجديدة ، تزامن ذلك مع عودة ما يقارب من مليون مغترب يمني من دول الخليج إبان حرب الخليج الثانية مما أدى إلى انهيار العملة المحلية وانخفاض القوة الشرائية وظهور عجز كبير في ميزانية الدولة .
وتسارعت مساحات العنف السياسي لتصل الى الاغتيالات التي نجحت في حصد أرواح عدد من المتحزبين والسياسيين وفشلت عشرات المرات. لقد بدأت الحياة السياسية منذ اللحظة الأولى عرجاء كما يقول الكاتب نصر طه مصطفى (هموم آخر القرن,2004) تعاني من اختلال واضح وغياب بارز للتكافؤ السياسي ، فهناك حزبان يمتلكان كل شيء وأحزاب أخرى لا تمتلك أي شيء وتجد نفسها مضطرة للبحث عن موقع في ظل أحد الشريكين الكبيرين ص 174.. ويضيف : وبدلاً من أن يتجه الحزبان لحماية نفسيهما من خلال البناء المؤسسي للدولة وتجذير الديمقراطية وادرة الصراع لصالح الناس والوطن، تفرغا للصراع السياسي معتمدين على توازن القوة بينهما، ومن ثم بدأت النتائج تظهر من خلال تدمير الحياة السياسية ، وزعزعة السلام الاجتماعي وانهيار الوضع الاقتصادي وجمود الحياة الثقافية واختلال الحالة الأمنية، لأن الصراع استخدم وسائل مختلفة مثل تفريخ الأحزاب السياسية وإثارة النعرات الاجتماعية وإنفاق المال العام على الكسب السياسي .. وهكذا جاءت انتخابات نيسان أبريل (1993) النيابية والبلاد على حافة الهاوية وكان الجميع يعتقدون أنها ستكون مفتاح الفرج ونهاية كابوس الفترة الانتقالية ص 135.
وجاء عكس التوقع ؛ بدخول حزب الإصلاح لعبة الحكم في ائتلاف ثلاثي (مؤتمر ، إصلاح ، اشتراكي) وفقا لحصوله على المركز الثاني في نتائج الانتخابات لتدخل البلد في أوج الأزمة السياسية وشكك الحزب الاشتراكي في نتائج الانتخابات، ونزح قادته إلى الجنوب، واكتملت حلقات الأزمة بين الأحزاب الثلاثة بقيام حرب صيف (1994م) بين المؤتمر والإصلاح من جهة والحزب الاشتراكي من جهة أخرى ؛ والتي أكدت ان العقلية الشمولية تسيدت على موقف وسلوك الاحزاب الثلاثة رغم محاولة إعلامهم و اطروحاتهم تبرير عكس ذلك فجاءت النتائج مدمرة على الشعب والوطن وعلى الديمقراطية الوليدة وخرج الحزب الاشتراكي من السلطة وخرج قادته إلى خارج الوطن لتستمر الأزمة بين تشكيك في شرعية النظام من المنهزم ؛ والاتهام بالعمالة ومحاكمات وحملات إعلامية من المنتصر ضد المنهزمين ، واستمر الصراع بين الأحزاب السياسية في كل الانتخابات المتعاقبة بعد (1993م) النيابية 1997 والرئاسية في (1999) و المحلية (2001) والتي ترافقت بالاستفتاء على التعديلات الدستورية .
جاءت الانتخابات البرلمانية الأخيرة (2003م) لتتكتل أحزاب المعارضة تحت اسم " أحزاب اللقاء المشترك" من خضم المعاناة واستبداد الحزب الحاكم لتظهر ملامح لتاسيس بنية ديمقراطية كتجربة يمكن البناء عليها والتي استطاعت الاستمرار حتى الأن _ رغم تباينات الأحزاب المنضوية فيه والتي كانت قبل ذلك تتنافر في رؤاها وتوجهاتها خاصة حزب التجمع اليمني للإصلاح والحزب الاشتراكي _ كخيار ديمقراطي لمواجهة هيمنة الحزب الحكم وسيطرته على كل مجريات الحياة في اليمن .. ، ولم تسلم الانتخابات المحلية والرئاسية (2006) من هذا الصراع لهيمنة الحزب الحاكم على مجريات العملية الانتخابية وحصوله على الأغلبية واحتكاره للسلطة واتهم إعلام المؤتمر اللقاء المشترك بالعمالة والإفلاس وعدم وجود الهدف ؛ وكل هذا في ظل تفاقم المشاكل الاقتصادية والاجتماعية.
لقد تكررت الصراعات الحزبية والسياسية على مدى عمر التجربة الديمقراطية وأصبحت سمة وعلامة لها ، فباتت الديمقراطية شماعة تعلق عليها اخطاء الحكم و ديكتاتورية النخبة وابتعدت الاحزاب عن صناعة المشهد لضعفها وقلة جماهيريتها سواء منها الحاكمة او المعارضة فتحولت قواعد اللعبة لتستند على الثقل القبلي و الشللية والعلاقات الشخصية وبمدى القرب من النظام بالسير على خطاة ومباركة سياساته حتى وان كانت تصطدم مع كل القيم الديمقراطية . وأضحت المصالح الشخصية تتفوق في اذهان معظم الفاعلين وقادة الاحزاب والدولة لتصبح هي الهدف الاهم الذي يتخطى مصالح المجتمع والناس والوطن ؛ واستمر الصراع لتحقيق مصالح ذاتية بعيدة عن بناء مداميك لمجتمع مدني أو ارساء لقواعد ديمقراطية رغم تهيؤ الناس لذلك بديلاً للرأي الواحد والحزب الواحد والزعيم الواحد . لقد جعلوا من مشروع الديمقراطية مسخ ونظروا اليه وكأنه نوع من الترف والسفه رغم اجترارهم وترديدهم في كل المناسبات والتحولات و الاخفاقات السعي لتحقيق الديمقراطية بحسب مفهومهم والتي باتت منفرة للمواطن في ظل تدني الاوضاع المعيشية والفقر والاختلالات الأمنية وعدم وضوح أي رؤية لمستقبل افضل . نلتقي في الحلقة الثانية