يقف أمجد كمال ، الشاب التهامي النحيل ، على أحد أرصفة الشوارع الرئيسية بالعاصمة صنعاء عارضاً عقوداً وزهرات من الفل اليمني ، النبات العطري الذي يكشف عبق الجمال والبهجة في وجه اليمن الآخر ، فيما يتصاعد الدخان الكثيف بالقرب منه نتيجة استهدف موقع عسكري بغارة جوية لطيران التحالف العربي.
تاريخ وطقوس
يعتبر الحب والفرح والصداقة والمودة والبهجة ، عناوين لشجرة الفل في اليمن ، وتكاد تتشابه طرق استخدامه ، في وسط وجنوب وغرب البلاد ، لكن يبقى المحترفون في صناعته والتفنن في تنويع تشكيلاته هم أبناء المناطق المنتجة له وخاصة في محافظات لحج والحديدة .
وإلى جانب كونه مصدر بهجة للنفس، يُعتبر “الفُل” أسطورة غرام يمنية ، يرتبط بحفلات الخطوبة والزواج ، والمناسبات الأخرى وحفلات أعياد الميلاد وتخرج الطلاب من الجامعات ، وتمنع عائلات يمنية في عدن ولحج ومدن أخرى فتياتهن غير المتزوجات من وضع الفل قبل الزواج.
وفي صنعاء والحديدة يخصص سكان في المدينة ، يوم الخميس مناسبة لشراء الفُل ، يقومون بإهدائه لزوجاتهم وأقاربهم وأصدقائهم كتعبير عن الحب والمودة والصداقة، ويضيفون اليه الكاذي والشذاب والريحان ونباتات عطرية أخرى ، حيث تقوم النساء بعمل تشكيلات منوعة يقصد بها الترويح عن النفس في الأسرة بعد أسبوع من العمل .
و يرى أيمن الجرموزي، من صنعاء ، أن الفل يستخدم أيضاً في مدينته كما في عند اليمنيين كنوع من انواع الزينة للمرأة في الأعراس واللقاءات النسائية الخاصة والحفلات العائلية ، ويوضع على رأس العريس تاجاً من الفل والشال المطرز يطلق عليه "العكاوة".
خليل الشماخ من مدينة تعز ، يقول ان البائعين في مدينته يقدمون به من مدن الحديدة ولحج ، حيث لا تنتج محافظته الفل ، يرى خبراء زراعيون أنه “يتطلب مناخاً استوائياً دافئاً”، وأفضل درجة حرارة للنمو هي 52 درجة مئوية؛ إذ أنه يتحمل الحر الشديد ولا يتحمل البرودة المنخفضة.
يضيف " الفل في تعز يستخدم في الأفراح والمناسبات الإجتماعية وفي الزيارات العائلية وبين الأصدقاء" ، كما يستخدم في الإحتفالات كحفلات التخرج ، بالإضافة الى الأعراس ، حيث ترتديه العروس في رأسها فل على شكل تاج ، فيما يعلق العريس على رقبته عقودا منها .
تاريخيا، يحكى أن أول من جلب شجرة الفل إلى لحج هو الأمير أحمد فضل القمندان، ويتميز الفل اللحجي عن غيره بورقته الكبيرة ولونه الناصح البياض ورائحته العطرة، والفل ليست له بذور بل تغرس عيدانه وتطرح مواسمه في الصيف.
بعد أن أدخله القمندان من الهند وتوسعت زراعته في محافظة لحج ثم وجدت تهامة أرضاً أوفر ماء فزاد توسعاً وتولع به الملايين وأصبح لسطوته العطرة سلطان على أهل هذا البلد ومن جاوره خاصة في فصل الصيف.
"خريجات يمنيات يحتفلن ب الفل"
الفل في الفن والأدب اليمني
للفنان اليمني محمد محسن عطروش ، أغنية ذائعة الصيت ، معنونة بـ"بائع الفل"، يقول" رحنا الى البندر في شهر نيسان ..نشتي نبيع الفل لكل ولهان ..ضيعت انا فلي واصبحت انا هيمان ..روحت وانا والقلب في الشيخ عثمان".
لم تعد بندر عدن ولا الشيخ عثمان وهي مناطق يتواجد فيها بائعو الفل في مدينة عدن معرضا للفل ، تحولت بالآونة الأخيرة لـساحة معارك عنيفة بين التحالف العسكري للرئيس السابق علي صالح ومسلحي الحوثيين وبين شبان المدينة الساحلية والموالون للرئيس هادي.
ومن أشهر الأغاني اللحجية الشائعة في منطقة لحج، أغنية تقول “يا ورد يا كاذي ..الا يا فُل الوادي" ، وفي أغنية تراثية للفنان محمد مرشد ناجي ، يجسد حواراً أنيقاً بين الورد والفل ، يتباهيا فيه بقدرتهما على حيازة أمكنة في خدود الغواني وتسابق العاشقون لشرائه .
قال بوناصر المضنى فتش ورد نيسان..في خدود الغواني
آنس الفل يوم الورد لزهر سلطان ..حاز كل المعاني
جوب الفل قال الفن لي والتفنان ..نشوتي ليل داني
ما ترى الزف بعدي عصر في بعض الاحيان ..كل عاشق شراني
و تغنى به الفنان علي بن علي الآنسي من كلمات الشاعر عبد الرحمن الآنسي الذي عاش فترة كبيرة من حياته في تهامة ومن أبياته عن الفل :
وأبيض الفل ذاك الأزهر..شبيه ثغر الرشا الأغرّ
من رصف زهرة ومن تمشقر..ورصفه ساعة السمر
الفل في مواجهة البندقية
مع دخول إبريل تنضج الحقول اليمنية بنبات أسطورة الفرح ، لكن ابريل في هذا العام مختلف عما قبله من الأعوام ، نتيجة الأزمة التي تعيشها البلاد ، والمواجهات المسلحة والغارات الجوية لطائرات التحالف العربي .
أمجد كمال وهو شاب من الحديدة قدم الى صنعاء لبيع الفل ، يتحدث عن صعوبات كثيرة تواجهه أهمها عدم إقبال الناس للشراء كبقية الأعوام ، مع رخص سعره مقارنة مع توجههم لشرائه في أيام سابقة غير موسمه "عاد الدنيا كانت بخير" في إشارة الى الإستقرار السياسي النسبي في البلاد قبل أكثر من عام.
يقول في حديثه لمندب برس ، سعر العقد الصغير يصل الى مئة ريال ، أكثر بقليل من نصف دولار، وسعر العقود الكبيرة يبدأ من 500 الى 1500 ريال ، وفي موسم الشتاء الذي يكون موسماً للإقبال عليه يصل الى 5000 ريال وأحياناً أكثر .
عرض أمجد الفل على شجرة برصيف شارع الستين بالعاصمة ، المكان الوحيد الذي لن يطالبه أحد بدفع إيجاره كما يقول، يقوم بإستدعاء المشاة واستغلال توقف الباصات لنزول الركاب بإقناعهم بشراء بضاعته الطرية والتي يحرص على الحفاظ عليها بثلاجات صغيرة يملأها الثلج .
أما محمد ناجي وهو صاحب محل لبيع الفل في شارع الدائري ، يشكو من ارتقاع الايجار الذي يصل شهريا الى 200دولار ، يشكوا أيضا من عزوف الزبائن نظراً لحالة النزوح الكبيرة التي تشهدها المدينة ، يقول أيضاً ان سعره انخفض مقارنة مع مواسم الأعراس والإستقرار.
يرى خليل الشماخ أن الأحداث التي تشهدها مدينة تعز ، والمواجهات اثرت بشكل كبير على بيع الفل والورد وغيرها، موضحاً أن كثير من الباعة المتجولين ومحلات بيع الفل في شارع جمال وسط المدينة والذي يعرف بكثرتهم غادروا مع موجة النزوح الكبيرة وحلت البنادق بدلاً عن الفل .
زهرات يرتدين الفل