على عتبات منازل صغيرة، وأبواب خيام مهترئة يسند مسنّون في عقودهم الخامسة، تقريباً، أظهرهم إليها، في جلسة هي أقرب للإستلقاء من الجلسة الطبيعية، بُغية أن تحظى تجاعيد أجسامهم النحيلة بأكبر قدر من أشعة الشمس، على الأقل بما يوازي معاناتها من صقيع البرد القارس.
تلك المنازل التي تكاد تنعدم فيها مقومات الإيواء، وتلك الخيم التي أكل منها الدهر وشرب، وأولئك المسنون الذين يحدقون في الشمس ويرتدون ملابس لا تغطي إلا الثلث من أجسامهم، ذلك كله مشهدٌ واحدٌ فقط، تُصبح وتُمسي عليه فئة من اليمنيين دارت عليهم الأيام وباتوا يُعرفون بـ«المهمشين» ليصب هذا الاسم كل معانيه عليهم، بل ويتسبب لهم في عذابات أخرى إضافية.
ترك كاظم، وهو فتى في الـ 18 من العمر، جلسته الممتعة مع أصدقاءه ليرافقنا في رحلة قصيرة للتعرف على بيوت المهمشين وتلمس أوضاعهم عن قرب ، كان يسير حافي القدمين ويرتدي "بنطلوناً" أبيضاً لا يبدو أنه على مقاسه و"فانيلة" كاكية اللون مهترئة.
في الممرات الضيقة ... وبعد أن تعرف على هويتنا كان كاظم كثير الكلام ، وبدونا بنظره كلجنة جاءت لتنتشلهم من أوضاعهم المزرية، تحدث كثيراً وحاول أن يختزل معاناة آلاف الأشخاص في وقت قياسي.
اخبرنا أن رجلاً مات للتو بعد معاناة مع المرض استمرت لسنوات، طلب منا أن نذهب لتصوير الجنازة, وابتسم قائلاً «ما يتردد حول أننا لا نموت غير صحيح، لدينا الكثير من الموتى، "الاخدام" يموتون في سن مبكرة بسبب سوء التغذية وامرض كثيرة وتردي الوضع».
تحدث كاظم بشكل مدهش كما لو كان رجلاً في الثلاثين من عمره.
في الأحياء العشوائية كان يمشي كاظم دون أن يكترث لأحد ،وسط مشاكسات أثارت تذمر النسوة، اللاتي كن منشغلات بعرض ملابس الأطفال والفراش المهترئ لأشعة الشمس، كان يمشي منتصب الكتفين وبريق حدقتيه المنهكتين لم يخفيا إبتسامته الخبيثه.
وفي هذه الأحياء والأزقة لا يتواجد –غالباً- سوى المسنون والأطفال، في حين يغادر كل من يقدر على حمل نفسه للسعي من أجل لقمة العيش.
يحلم كاظم بأن يصبح طياراً لكنه يتساءل ما إذا كان سيتم قبول فتى أسود في كلية الطيران؟ فيقول صديقه وهو يضع ضربة قوية على ظهره «كاظم أنت باتكسر الطيارات أنت تشتي تكون طيار عشان تهرب مع حبيبتك».
يطلقون ضحكات كبيرة ونحن نبتسم.
يستعيد كاظم رباطة جأشة ويعدل من وضعية جلوسه ويردف «نحن نعاني , نعاني من التمييز العنصري».
في المدرسة والبقالة والشارع وكل مكان، تخيل زميلك في المدرسة يقول لك أنت مجرد خادم حتى لو تدرس أنت عملك تنظف الشوارع. أذهب إلى البقالة لاشتري فيقول البائع بتهكم: «وأنت يا خادم ما تشتي؟».
ويستطرد: لكن هناك الكثير أيضاً يعاملوننا بلطف.
في وسط العاصمة صنعاء تقع منطقة بائسة تدعى "المحوى"، يسكنها قرابة ألفي شخص، وتطل المحوى على مبنى البرلمان الضخم الذي يتم العمل على إنجازه منذ سنوات بمبالغ مالية طائلة، كما أنها قريبة من منزل فخم تعود ملكيته للرئيس عبد ربه منصور هادي.
لاشك بأن الرئيس هادي قبل أن يغادر منزله، كان يستقيظ من نومه ويطلق لنظره العنان ناحية الشرق، وحين يفعل ذلك فإن بيوت المهمشين ستبدوا واضحة للعيان.
و«المحوى» واحدة من عدة مناطق متفرقة ومعدومة الخدمات يقطنها ذوو البشرة السمراء.
في هذه المنطقة يقع أكبر تجمع لطبقة مسحوقة من اليمنيين السود يسكنون في ظروف معيشية قاهرة ولا تُحتمل.
المسنون من هذه الفئة يعرضون أجسادهم للشمس باكراً طلباً للدفء، والأطفال يلهون معظمهم عراة، ويلاحظ الزائر لأحياء المهمشين كيف أن غرفة واحدة مبنية من الأحجار العشوائية و"الطرابيل الخفيفة" هي كل ما تمتكله أسرة معدمة.
إلى الجوار من المحوى، وعلى بعد أمتار فقط تقع أحياء سكنية، مُنحت لها غالبية الخدمات الأساسية كالماء والكهرباء والمراكز الصحية، على النقيض تماماً من منطقة المهمشين التي ينعدم فيها الكهرباء، وبالنسبة للمياه فلا يوجد حتى شبكة خاصة بها ناهيك عن وجود مشروع مائي، لدرجة أن ما يقارب 90% من المنازل بدون حمامات.
يقول كاظم بالنسبة للمياه نعيش على خدمة فاعل خير، كل خميس يجلب لنا بضعة وايتات ونقف في طوابير طويلة محملين "بدباب" كل ينتظر دوره وغالباً ما يحدث شجار عنيف.
وبحسب تقديرات، فإن عدد المهمشين في اليمن ما بين الـ 500 ألف إلى المليون، ويتوزعون على محافظات صنعاء وتعز، وحجة وإب وغالبيتهم يقطنون محافظة الحديدة.
يعول كاظم، ستة أفراد بينهم والده المقعد، ويحلم بأن يصبح طياراً ويقول «أنا لا أريد أن اسلك الطريق الذي يسير عليه معظم أفراد جماعتي لا أريد أن أتسول كما أني ارفض أن أكون منظف شوارع ،أريد أن أكون مختلف لكن لا احد يساعدني على ذالك».
يعيش المهمشون في أرجاء البلاد أوضاعا مأوساوية وعزلة إجبارية عن باقي المجتمع اليمني، ويعملون في مهن يعتبرها البعض دونية كتنظيف الشوارع وغسل السيارات، وتمارس ضدهم ممارسات مظاهر التمييز والاحتقار تصل إلى حد الاعتداءات الجسدية. كما وبرزت مؤخراً عدد من القضايا من بينها اغتصاب فتيات في محاولة لنشر صورة نمطية سلبية عنهم في اليمن عن أنهم "غير أخلاقيين".
وعلاوة على ذلك فأساطير أخرى، كعدم موت المهمشين يتم تداولها بكثرة على ألسنة العامة.
يواصل كاظم: في الفترة الأخيرة اتفقت مع مالك صالة أعراس بأن أنظفها عقب كل مناسبة مقابل 2500 ريال، ويستدرك لكن لا يأتي هذا العمل إلا وأنا منهك تماماً ولا امتلك أي ريال لاشتري مطالب أسرتي.
شظف العيش وعذاباته التي تثقل كاهل هذا الشاب لم تفت في عضده، وتُجبره على أن يعيش تعيساً لا يحمل مشاعر وأحلاماً، فهو بالفعل يحلم أن يكون طياراً، وعلاوة على ذلك يعيش قصة حب مع فتاة تسكن بالقرب منه.
حين يتحدث عن تلك القصة يتلألأ وجهه مبتسماً، ويقول «نحن نحب بعض وأريد أن أتزوجها أعطيت والدها 200 ألف ريال لكنه رفض، إنه يريد 500 ألف ريال، والطريقة الوحيدة لكي احصل عليها هي أخذها والهروب إلى زبيد بالحديدة، لذلك أريد أن أصبح طياراً ،لو أخذتها معي بالطائرة لن يستطيع احد اللحاق بنا».
ولأننا لو وضعنا أنفسنا في مكانه فإننا سنصاب باليأس والإحباط حيال ذلك، فقد سألناه ما إذا كان ينتابه هذا الشعور؛ قال :لا، وأردف: صحيح بأن وضعنا متدهور لكننا سعداء.
للمهمشين قصص ابعد من مجرد إحساس بأن الحياة لم تعد تحتمل في مكان ما.. المهمشون قصص تتكرر مآسيها وإن اختلفت تفاصيلها من مكان إلى آخر.
بالنسبة للمهمشين إن كنت محظوظاً بشكل كاف سيكون لديك الوقت للتفكير إلى أين سينتهي بك المطاف كصاحب بشرة سوداء قليل الحظ.
أما إذا لم تكن محظوظا فستترك كل ذلك وراءك وتنشغل بتنظيف الطرقات ومد يدك للمارة وأصحاب المحلات التجارية حتى النهاية.