منذ قرابة سته عقود، يقف النصب التذكاري لـ“الجندي المجهول”، في قلب العاصمة اليمنية صنعاء، كشاهد حي يروي حكاية أبطال الثورة اليمنية 26 سبتمبر/أيلول 1962، ويذكّر الأجيال ببسالتهم وتضحياتهم في سبيلها.
إلا أنه بعد انقلاب جماعة الحوثي وسيطرتها على صنعاء، بدأت بطمس معالم وموز الثورة اليمنية، بما فيها تحويل النصب التذكاري إلى مقبرة لبعض قادتها الذين قتلوا وهم يحاربون اليمنيين لاستكمال السيطرة على البلاد.
نصب الصماد
في 28 إبريل/نيسان 2018، أقدمت جماعة الحوثي المصنفة بقوائم الإرهاب، على دفن رئيس مجلسها السياسي “صالح الصماد”، ومرافقيه بجوار نصب “الجندي المجهول”، ورفعت صورهم على واجهته، بعد مصرعهم بغارة لطيران التحالف العربي، قبلها بأيام.
من حينها، حوّلت الجماعة هذا “النصب التذكاري”، إلى مزار “طائفي“ لعناصرها وأنصارها. كما حوّلت ميدان السبعين المجاور من ساحة للاحتفالات الوطنية إلى مساحة لإقامة فعالياتها وأنشطتها التعبوية والتحشيد للحرب.
حقيقة المشروع
حول هذا، قال ركن توجيه العمليات المشتركة العقيد الركن خالد القارني، لـ“بران برس”، إن “اعتداء” الحوثيين على النصب التذكاري “يعكس بصورة جلية حقيقة المشروع الحوثي المستمد مضامينه من المشروع الإيراني”، والذي أوضح أنه “يسعى إلى السيطرة الكاملة على المنطقة العربية وغزوها عسكريًا وفكرياً واقتصادياً وسياسيًا”.
ووصف “القارني”، مشروع الحوثيين بأنه “مشروع احتلال موجهة ضد النظام الجمهوري، وضد المجتمع ومسيرته التاريخية”، مبيّنًا أنه “يقوم على النزعة العرقية والسلالية وضد المواطنة المتساوية”.
وقال إن جماعة الحوثي “استقت أفكارها من خارج منابع التراث والتاريخ اليمني”، مضيفًا أن السنوات الماضية كشفت بـ“وضوح” الأهداف السياسية التي تسعى الجماعة لتحقيقيها وأولها “الاستيلاء على نظام الحكم في اليمن، وتدمير مؤسساته التي بناها طوال ٦٠ عامًا”.
واعتبر ما تعرض له النصب التذكاري يماثل ما تقوم به الجماعات المسلحة الموالية لإيران في العراق من خلال بناء الأضرحة الطائفية في كربلاء وقم.
وقال إن هذا العمل “تعد صارخ لأهم معالم ثورة الـ26 من سبتمبر”، مؤكدًا أن الجماعة تهدف من وراء هذا “لاستبدال هوية الشعب اليمني بالهوية الفارسية، وفرض اعتراف العالم والمؤسسات الدولية بنظام ولاية الفقيه في اليمن”.
استدعاء للماضي
ووفق العقيد القارني، فإن جماعة الحوثي من خلال هذه الأعمال “تستدعي الماضي بأسوأ ما فيه”، والذي قال إنه “لا علاقة له بالنسيج الاجتماعي اليمني، ولا بالتاريخ الثقافي والسياسي والديني”.
ودعا “القارني”، في حديثه لـ“بران برس”، الجميع إلى “مواجهة هذا الغزو العسكري والفكري والاقتصادي بكل قوة وإرادة حتى يبقى اليمن للجميع ومن حق الجميع”.
ويتطلب هذا وفق القائد العسكري، “العمل على وجود دولة فاعلة تتجاوز كل سلبيات الماضي سواء القريب منه أو ما سبقه”.
تخليد للتضحيات
وعن “النصب التذكاري”، قال العقيد القارني، إنه يخلد تضحيات أحرار اليمن الذين ضحوا بحياتهم في سبيل التخلص من الإمامة وطغيانها وجبروتها، قبل أن تأتي مخلفات ذلك العهد المظلم لتحوّله إلى مزار طائفي.
وأضاف أن “كل الشعوب العالم التي خاضت حروب التحرر من الاستعمار والاستعباد اتخذت رموزًا وطنية تعبر عن الثمن والتضحيات الجسام التي قدمتها من أجل حريتها واستقلالها”.
وأوضح أن الهدف من وراء تشييد هذه الصروح هو إبقاء تلك التضحيات “حية وخالدة في ذاكرة الأجيال لكي تواصل حماية حريته وتتسلح بالقوة التي تكفلها ديمومة هذا الهدف العظيم”.
إنشاء النصب ودلالاته
في العام 1983، وتزامنًا مع العيد الـ21 لثورة 26 سبتمبر 1962، أُزيح الستار عن نصب “الجندي المجهول”، بعد عام من صدور قرار رسمي بتشييده في ميدان السبعين، ليظل بعدها أحد أبرز المعالم اليمنية المهمة.
أنشئ هذا الصرح في الجهة الغربية لميدان السبعين، مقابل منصة العروض العسكرية. ووفق عسكريين، فإن المكان تعبير ودلالة بأن الاحتفال بالثورة هو أحد ثمار تضحيات هذا الجندي، وكأنه يشاركهم الحضور الدائم.
تتمحور الفكرة الأساسية للصرح، وفق العسكريين، حول إيجاد رمز خالد يعبر عن تضحيات الشعب اليمني في سبيل التحرر من الاستبداد، ويرتبط بالذات اليمنية والرموز الوطنية.
وفق المصادر التاريخية، فقد أشرفت على تنفيذه شعبة “سلاح المهندسين”، وبكوادر يمنية.
صورة مكثّفة
ولم يكن “الجندي المجهول” الصرح الوحيد الذي طاله الاعتداء الحوثي، بل إن الجماعة تعمل على طمس كل ما له علاقة بثورة 26 سبتمبر من معالم ورموز. وفي المقابل تعمل على إحياء كل ما له علاقة بحكم الإمامة الذي أطاحت به ثورة 26 سبتمبر، والذي تعد جماعة الحوثي امتدادًا سلاليًا وفكريًا له.
ووفق عسكريين، يمثّل الاعتداء الحوثي على نصب “الجندي المجهول” ملخصًا لمحاولات الحوثي لإعادة إنتاج الماضي الذي ناضل اليمنيون عقودًا للخلاص منه، والذي عزل اليمن عن العالم، وعرف بثالوث الجوع والجهل والمرض.
مكونات الصرح ودلالاته
يحمل التصميم والشكل والمكونات للنصب التذكاري دلالات ومعان هادفة ومترابطة في شكل هندسي موضوعي، وفق ما نقلته وسائل إعلام محلية في سنوات ماضية نقلاً عن مهندس المشروع والقائمين عليه.
ووفق المعلومات، فقد جرى تصميم الرقم ٢٦ على شكل هندسي يرمز إلى تاريخ قيام الثورة في ٢٦ سبتمبر ١٩٦٢، ويمكن قراءة الرقم من الواجهة الخلفية.
ويحتضن الرقم ٢٦ الآية القرآنية التالية (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ)، ونقشت حروفها على أحجار الحبش بالخط الكوفي الهندسي، في شكل ينسجم مع التكوين المعماري للمجسم.
وشمال الرقم ٢٦، شيّدت 6 أعمدة متدرجة تمثل أهداف الثورة الستة. ويرمز التدرج للتطور المستمر، وكذا زيادة التضحية. وتنتهي الأعمدة بتيجان ترمز لأعمدة عرش بلقيس كدلالة تاريخية تعبر عن التواصل الحضاري.
وعلى يمين الرقم، يوجد حائط من الحجر الأبيض يمثل أرواح الشهداء، ويرمز إلى نقائها، ويبدو الشكل وكأنه كفتا ميزان تمثّل إحداهما أهداف الثورة الستة والأخرى أرواح الشهداء، والتي تمثل الثمن الذي رفعت به هذه الأهداف وهو ما جعل الشكل متزناً معمارياً.
ويوجد في النصب عقدين كبيرين من الأحجار يربطان بين الرقمين ٢ و٦، وذلك بتثبيتها وتحقيق الربط بين الحائط والأعمدة، ويرمزان إلى طابع الفن المعماري اليمني الأصيل المتجسّد في الإنشاءات والمباني اليمنية.
في الوسط تحت الرقم ٢٦ يوجد “مصطبة”، لوضع الأكاليل. وهو منحنيات في أطرافها ٦ أعمدة حجرية صغيرة وبنفس شكل الأعمدة الستة الكبيرة، وتربط بينها منحنيات تشكل محراباً لقراءة الفاتحة على أرواح الشهداء.
ويتربّع الصرح على قاعدة كبيرة مرتفعة عن الأرض لإضفاء القدسية والرهبة عليه. وتظهر مدى الإعزاز والتقدير للشهداء، وتدل القاعدة على المكانة التاريخية التي احتلتها اليمن بين حضارات العالم.
وفي محيط النصب التذكاري، توجد حديقة الجندي المجهول تقدر بكيلو متر طولًا ونصف كيلو عرضًا.
ويتم إقامة “النصب التذكاري” لدفن الجنود المجهولين الذين لم يتعرف على هوياتهم في الحروب، ويقام في مكان متسع، ويزوره القادة والشخصيات العامة في احتفالات النصر والأعياد القومية ويضعون على قبورهم أكاليل الزهور تكريمًا لتضحياتهم وتخليدًا لذكراهم.