شكّلت تغطيات الصحافي اليمني محمد القاضي، الذي يعمل لصالح قناة "الجزيرة مباشر"، للسنوات الثلاث الأولى من الحرب (2015 - 2018)، فرصة للمشاهِد العربي كي يطّلع عن كثب على الواقع الإنساني في البلد، وعلى أحوال النازحين والضحايا الذين طاولهم الصراع، وما تركه على حياتهم من مآسٍ، وذلك في الوقت الذي كانت فيه البلاد تُغَيَّب عن الشاشات، وأوجاع الناس، وخاصة الأطفال والنساء، يتمّ تحييدها، على حساب مشاهد أُخرى، في منطقة تُعاني أصلاً من التهميش، ولا نصيرَ لأهلها، حتى ولو إعلامياً.
العام الماضي رجع القاضي إلى ذاكرته القريبة، إلى مرويات الحرب وصُورها وإلى أرشيفه البصري أيضاً، ليسجّله ويعيد إخراج ما سبق في كتاب حمل عنوان "سيلفي الحرب: يوميات صحفي يمني"، وصدر عن دار "أروقة". وسواء في الكتاب أو المَشاهد المصوّرة، فإنّ حالة التماهي مع الحدث، والاقتراب من صانعيه، هي أكثر ما تلفت، وهي ما اشتغلت عليه المخرجة الشابة حنين زايد في فيلمها التسجيلي الذي يحمل العنوان ذاته، وبثّته قناة "الجزيرة مباشر" مؤخّراً على شاشتها.
ينطلق الفيلم (15 دقيقة)، من نقطة تقاطُع بين الجانب المِهني (خاصة أنّ زايد هي طالبة إعلام، وقدّمت عملها كمشروع تخرّج في "جامعة قطر")، بمعنى أنه إطلالة عملية على عدّة مفاهيم كالصحافة الاستقصائية، والتوثيق والأرشفة، والمُراسَلة الميدانية؛ وبين الجانب الإنساني، حيثُ تشكّل مصائر الناس المركز الذي تتحرّك إليه الكاميرا. إذ ليس من الصعب أن يُلاحظ المتابع، في غمرة أصوات الرصاص، وازدحام السيارات العسكرية، والمقاتلين الذين يُعبّئون الشوارع، أنّ القاضي يلتقط من بين كلّ ما سبق تفاصيل الحياة اليومية لتلاميذ يدرسون في مخيّم للاجئين، ومعلّمات يكافحن للوصول إليهم.
يستقبل الطلبة الكاميرا بجوٍّ مُميَّز، يخلقون فرحة لظهورهم على الشاشة، ويتدافعون أمامها وهم يمسكون بما تيسّر لهم من كتبٍ ولوازم مدرسية. كذلك تنتقل بنا الكاميرا لرصد حال نسوةٍ يسعينَ لأجل تأمين مقوّمات العيش العادية من أرغفة خبز وجرّات غاز؛ تجمُّعٌ كبير تفرّقه في لحظات أصواتُ رصاص، وإعلان جولة جديدة لمليشياتٍ تُستفَزّ لمجرّد أن يقوم الصحافي بمهمّته اليومية.
لا يقتصر الفيلم على إضاءة ما جاء في الكتاب أو أرشيف صاحبه فحسب، إذ اشتغلت زايد أيضاً على توليفة تنقل من خلالها للمُشاهِد العربي موقع الصحافي وهو على جبهات القتال من مؤسّسته التي يعمل فيها. وهنا أُتيح المجال لحديث ضيوفٍ آخرين في الفيلم، حيث تحدّث مدير قناة "الجزيرة مباشر" أيمن جاب الله عن دور تجربة القاضي وانعكاساتها على بيئة العمل نفسها. ولمّا كان الصحافي معرّضاً للخطر على الخطوط الأمامية، فإنّ هذا يتركُ أثراً نفسياً عليه، ويستوجب بالمقابل الدعم أو المعالجة نتيجة الصدمات التي يتلقّاها.
أخيراً، تمكّنت زايد في عملها من توجيه الأنظار إلى عوامل خفية في مهنة المراسلين؛ فصحيحٌ أنهم يتصدّرون المشهد التلفزيوني، إلّا أنّ الصورة التي يراها المُشاهِد وراءها الكثير من الجهد والبذل، وحسبنا أن نتذكّر التجربة الحيّة للشهيدة الفلسطينية شيرين أبو عاقلة، التي اغتالها جيش الاحتلال الإسرائيلي في الحادي عشر من أيار/ مايو 2022، وكان ذلك الحدث أحد العوامل التي دفعت حنين زايد للمتابعة في إنتاج فيلمها، كما صرّحت في لقاء سابق.