الرئيسية > ثقافة وفنون > الحرب تطارد المثقفين في اليمن

الحرب تطارد المثقفين في اليمن

أخذت الحرب المندلعة في اليمن أموراً كثيرة في طريقها المؤدية إلى الهلاك حيناً والى الشتات أحياناً. وقد أطاحت العديد من الفئات الاجتماعية وجوانب عدة من حياة المجتمع، مثلما أدت إلى نزوح فئات أخرى داخل البلاد وخارجها.

وفي المشهد الثقافي تبدو الصورة أكثر وضوحاً - بل أشد قتامة - فثمة العديد من المثقفين والمبدعين غدوا، اليوم، إما في القبور أو في أقبية الاعتقال أو قفار الاغتراب. وهذه الظاهرة لم يعرفها المثقفون والمبدعون اليمنيون في الحرب الأخيرة فحسب، إنما كانت لهم تجارب سابقة في كل الحروب والأزمات المسلحة التي شهدتها البلاد طوال عقدي السبعينات والثمانينات، لعل أشدها إيلاماً - باستثناء الحرب الأخيرة - حرب صيف 1994 الأهلية التي توقفت مدافعها عن القصف إثر اجتياح القوات الشمالية للجنوب.

الروائي والكاتب علي المُقْري من ضحايا الحرب التي لا تزال نيرانها وتبعاتها مستمرة إلى هذه اللحظة.. وقد تقاذفته رياح الشتات، في بلده أولاً، ثم في بلدان عدة: جيبوتي، مصر ثم فرنسا حيث يقيم اليوم.

يحكي المقري هذه التجربة كأنَّه يكتب أحد نصوصه القصصية المتميزة ، ولكنها هذه المرة قصة واقعية جداً وحقيقية للغاية، كتبها بحبر من دم وبرائحة البارود والألم:
«بين غارة جوية وقصف المدفعية، عشت الشهور الأولى للحرب. ومنذ الانفجار الأول اكتشفت أنني أسكن قرب أحد المعسكرات الكبيرة في العاصمة صنعاء والذي كان هدفاً للضربات الجوية العنيفة الأولى. أربعة صواريخ على هذا المعسكر كانت كفيلة بنزوح كل سكان الأحياء المجاورة، فقد كانت الانفجارات مرعبة، فيما تهدَّم الكثير من البيوت. خرجنا من البيت بعد أن اهتزت جدرانه وصفّقت شبابيكه وعلا صراخ من فيه. وفي الشارع التقينا بالعديد من العائلات التي حمل أفرادها ملابسهم وبعض حاجياتهم الخفيفة على رؤوسهم وأكتافهم. عيونهم بدت مرتعبة ووجوههم منفعلة ككلماتهم وصراخهم وخطواتهم. يمضون هلعين، لا يدرون إلى أين ؟
ظل دوي القصف يتردد طوال الليل والنهار في كل مكان من المدينة. فكان عليَّ وعائلتي أن ننزح من العاصمة إلى مدينة تعز - حيث يقطن أخي - لكننا لم نستطع الصمود هناك في وجود مدافع القوات الانقلابية التي تزهق أرواح الأهالي الآمنين وتقصف الأحياء بشكل عشوائي، تماماً كما تفعل في مدن عدة بمختلف أنحاء البلاد. لكن المقام لم يطل بي في تعز فقررت الذهاب إلى قريتي التي تبعد زهاء ساعة بالسيارة عن المدينة. وهناك لم تمضِ سوى أيام قليلة حتى صحوتُ على أصوات القذائف تدوي في القرية المجاورة، فأيقنت أن الخطر اقترب كثيراً.
هنا يأتي النزوح الجديد للروائي علي المقري، ولكن إلى خارج البلاد هذه المرة: تلقيتُ آنذاك دعوة من المكتبة الوطنية في لندن للمشاركة في ندوة أدبية بمناسبة صدور الطبعة الإنجليزية من إحدى رواياتي. ذهبت إلى جيبوتي عبر البحر في أحوال غير آمنة على الإطلاق. وفي جيبوتي لم أستطع الحصول على تأشيرة لدخول لندن، إذ كان عليَّ السفر إلى القاهرة لأخذها من هناك، فيما السفارة المصرية في جيبوتي لم تمنحني التأشيرة لدخول القاهرة إلاَّ بعد مضي ثلاثة أشهر ، وحينها كانت فعالية لندن قد أنصرم موعدها.
ومن القاهرة ذهبت إلى باريس لأستلم جائزة أدبية مُنحت لي من إحدى المؤسسات هناك، حصلت بعدها على منحة تفرّغ للكتابة، لكنني لم أستطع أن أكتب حرفاً واحداً، فذهني ما زال مشوشاً بتفاصيل ما حدث وبالي لم يزل مرتبطاً كلياً بالبلد وبأهلي هناك على مدار الساعة. وما زلت أتابع الأخبار القادمة من هناك وتفاصيل الوجع الدامي اليومي. أتوقَّع في كل لحظة أن يصلني خبر مؤلم عن أحد أفراد أسرتي أو أحد أصدقائي. أخاف أن تُقصف مكتبتي في البيت وهي بمثابة عمري وذاكرتي وكل رصيدي في الحياة. صحيح أنني غادرت اليمن، إلاَّ أنها ما زالت تسكنني».
صدام أبو عاصم (كاتب وصحفي) يروي تجربته بلغة درامية شبيهة بتلك المستخدمة في سينما الرعب أو الأفلام البوليسية:
كنتُ من أوائل الذين ألتهمتهم سعير الحرب، من الناحيتين المعنوية والمادية. ففي مارس 2015 أوقف الحوثيون صرف راتبي في مقر عملي. وفي مايو/أيار نشرت أوساط الانقلابيين «قائمة سوداء» بأسماء كتّاب وصحفيين وصفوهم بأنهم «مؤيدون للعدوان» ، بسبب انتقادهم الانقلاب وشن الحرب الداخلية ضد اليمنيين من قبل تحالف الحوثي - صالح. كان الأمر يزداد تعقيداً لاسيما في صنعاء. وبدأت حملات اعتقال طالت عدداً غير قليل من الصحفيين والكُتَّاب والنشطاء في ميدان الحقوق والحريات. وتوقفت أنشطتنا الإعلامية.. فقررت الخروج من صنعاء ولم يكن ذلك ممكناً إلاَّ متخفياً.
تمكنت حينها من دخول الأراضي السعودية، حيث ظللت فيها لفترة قبل أن أتمكن من الذهاب إلى سويسرا حيث أقيم حالياً كلاجئ.
لا شيء يُضاهي العيش في بلدك الأصيل - يقول أبوعاصم - لكن تزايد حالات الخطف والاعتقال والقتل والتنكيل، خصوصاً في أوساط الكتّاب والصحفيين وسائر المثقفين، فضلاً عن تدهور الأحوال المعيشية وقطع الراتب هو ما دعاني وغيري إلى مغادرة البلد واستمرار الإقامة خارجها.
لقد ظل المثقفون والمبدعون - يستطرد أبوعاصم - هم وقود كل حرب أو أزمة سياسية أو مسلحة تشهدها اليمن، والحرب الأخيرة هي الأسوأ بكل المعايير، خصوصاً في بيئة لا يعترف فيها أطراف الحرب بأخلاقها.

من حق التعبير.. إلى حق الحياة

بات جلياً أن عامي 2015 و 2016 هما الأسوأ في تاريخ اليمن من ناحية الحريات، والحرية الفكرية والإعلامية بالذات.
وقد تزداد الصورة وضوحاً إذا عرفنا أن ترتيب اليمن على جدول التصنيف العالمي لحرية الصحافة للعام المنصرم جاء في المركز 170 من أصل 180 دولة. عدا أن اليمن غداً مؤخراً «من أخطر البلدان في العالم على حياة الصحفيين» بحسب تقارير لمنظمات حقوقية دولية من بينها منظمة «مراسلون بلا حدود» الدولية المعنية بالحريات الإعلامية (مقرها باريس).
ويشير نبيل الأسيدي (العضو الأبرز في مجلس نقابة الصحفيين اليمنيين ) وهو المسؤول عن ملف الانتهاكات التي تتعرض لها الحريات والصحافة جراء ممارسات قوى الانقلاب والحرب في البلاد، إلى أبرز الملامح القاتمة في هذا المشهد، منوهاً بارتفاع عدد شهداء الصحافة إلى 19 خلال العامين المنصرمين، عدا 125 جريمة خطف واعتقال وإخفاء قسري، ما زال نحو 20 منهم تحت طائلة الإخفاء، و51 واقعة تهديد بالقتل أو الاعتقال، وأكثر من 20 حالة إيقاف راتب، و38 إقصاء من الوظيفة الإعلامية، وحجب أكثر من 130 موقعاً إلكترونياً وإخبارياً و36 حالة إيقاف صدور صحف وإغلاق مكاتب قنوات وصحف يمنية وعربية وأجنبية، إضافة إلى إغلاق مقر نقابة الصحفيين ومصادرة أموالها. وفي الوقت نفسه ثمة أكثر من مئتي صحفي غادروا البلاد جراء اشتداد حملات القتل والاعتقال والإخفاء القسري، وتوزَّعوا في بلاد عربية وأوروبية عدة، أما من لم يتمكن من المغادرة فقد نزح إلى مناطق تقع تحت إدارة الحكومة الشرعية.
ويقول الأسيدي بمرارة واضحة: إن الإعلام الحربي والإرهابي هو السائد في اليمن اليوم، ولا وجود البتة للإعلام المهني، ناهيك عن إصرار وسائل إعلام الانقلاب وتصريحات مسؤوليه على وصف الإعلاميين المعارضين للانقلاب بأنهم «حفنة من العملاء والجواسيس».. ومما يزيد من سوداوية المشهد أننا لم نعد نطالب بحق التعبير وحرية الصحافة بقدر مطالبتنا بحق البقاء على قيد الحياة لزملائنا الكتّاب والصحفيين.